الدكتور الشاعر شادي عمار
زهرة الملح والزجاج
تستيقظ المدينة
تبدأ من مفرق شعرها
بأنامل كسولة
اللافت أن امرأةً
أوّل ماتغرس أناملها
في غدائرها التي
أفاقت توّاً!
بعض الباعة المؤرّقين يفتتحون باكراً جدّاً:
أبٌ لجنديٍّ يلتهمه الموت حيّاً،
أخٌ لثكلى يأكله أولادها،
أو ساعٍ لاقتناص دمعةٍ ذهبيّةٍ نادرة
تسقطها مدينةٌ _عضِلَتها الحرب_
كل مئة عام…
تفرك وجهها بالبودرة
تتأمّل تجاعيدها المباغتة
تمطّ جلد الوجنتين والجفنَين
انتشاءً قصيرًٌ مجنونٌ
بشبابٍ عبر للتوّ
قبل أن تبتلعه التغضّنات مجدّداً.
تمرّ أولى السرافيس
وتجري في العروق الإسفلتية
دماءٌ ملوّنةً
لطلاب الشهادة الإعدادية
المتقافزين كجنادب
تتفادى الفخاخ المميتة
للمضيّ في العمر،
وجامعيّين
تلفظهم مكاتب ضيّقة
تحوّلت إلى ثكناتٍ لسكنٍ عاجل
على جبهات حياةٍ اعتمرت الخوذة،
يُسلّم عليكَ أقرباءٌ
اقتطعتهم المدينة منك
واحتفظت بهم في قفصها الزجاجي
فلا تراهم إلا
وقت تزور المتحف الهائل
لأناسٍ طُمروا منك
في أقاصي الذاكرة المحاصرة بالزناد
وتنبشهم اليومَ
في اختطافِك نفسِك
إلى بقعةٍ صغيرةٍ
من سعادةٍ منسيّةٍ
لم تنظّفها ممسحة الحرب بعد…
ترتدي أقراطها
وتهمّ بالخروج،
ينتصف النهار
وتشرع أبواب المحلات جميعها
بثوبٍ لايستر شيخوخةَ
سبع سنواتٍ من
حراثة البنادق للعيون،
بفرحٍ تقابل أصدقاءَكَ القدامى
وقد سبقوا الحرب المزواجَ
إلى الهرم،
فالعريسُ الكهل
تتعفّف عنه المعارك الشبقة
لتتلقّاه المنيّة العجوز
زوجاً أبديّاً
على سرير التراب.
ثمّ تغادر جاراتها
بفستانها الصيفيّ
إلى الأملِ البعيد
بشراءِ يمامٍ رخيصٍ جميل
للسطوح المقفرة،
وزوجَ أحذيةٍ بكعوبٍ عالية
تفضح نزق أصابع القدمين
بابتسامتين لطلاء الأظافر
من عشرة أسنان
على الطريق.
تودّع البيوت التي
لم تفارقْكَ يوماً،
تدّعي أنّك اشتقت لحناياها
وزواريبها،
وهي تفترش قلبكَ
مدينةً عصيّةً على ضراوة النسيان،
زهرةً من ملحٍ وزجاج
لاتتفتّح مزيداً
لاتنكسرُ
وإذا تشمّها
تَسكُب في جوفك
إحدى البحار فجأةً!
بكامل حمولتها
من السفن الغارقةِ والمنافي
وملحٌ يحفر عميقاً
في لسان ذاكرةٍ مُسهدةٍ
شرسةٍ في تلبّثها
على خيمتك الآيلةِ للزوال،
مصرّةٍُّ بطريقةٍ مضحكةٍ
على البقاء
بعد موتكَ الألف!!