بعد خروج الجيش الصهيوني من جنوب لبنان سنة 2000 ذليلًا تحت وطأة ضربات المقاومة، خضنا مجموعة من المواجهات كان الصهاينة دائمًا من يُطلق شرارتها كلما شعروا باختلال ميزان القوى المرتبط بالصراع لمصلحة محور المقاومة، وما الحرب الدائرة في المنطقة وخصوصًا سوريا إلّا تتمة للإعتداءات المستمرة منذ احتلال فلسطين.
تجدر الإشارة هنا أننا لا نزال منذ احتلال فلسطين في موقع الدفاع والمقاومة بسبب الخلل الكبير في ميزان القوى الذي يستمر منذ عقود طويلة لمصلحة الكيان الصهيوني، الذي حرصت دول الناهب الدولي على تأمين كافة عوامل التفوق له في الجوانب العلمية والعسكرية والإقتصادية لضمان استمرارية تفوقه على العرب والمسلمين مجتمعين.
المسالة الثانية المهمة ايضًا هي أنّ فرنسا وبريطانيا وفيما بعد اميركا، بعد انتقال ملفّ قيادة الهيمنة لها في العام 1957 بعد إفشال مفاعيل العدوان الثلاثي، اوكلوا لهذا الكيان دورًا وظيفيًا يرتبط بقيام الكيان بدورالشرطي وتأمين دوام حالة التفتيت والإنقسام للكيانات التي نشأت بموجب اتفاقية سايكس – بيكو، والتي قام الناهب الدولي بإحداث مجموعة متغيرات عليها حملت اسماء مختلفة من مخطط هنري كيسينجر وصولًا حتى نظرية الفوضى الخلّاقة التي انتجت "الربيع العربي"، والذي لا يزال ساري المفعول عبر آليات متجددة تتناسب مع التحولات والتي لا تسير بسبب المقاومة الفاعلة بما تشتهي وترغب به اميركا.
على هذا الأساس، فإنّ المقاربة يجب ان تتم انطلاقًا من توصيف واقعي جديد يرتبط بميزان القوى والدور الوظيفي للكيان.
1- في ميزان القوى:
أ- شهدنا النقلة النوعية الأولى لصالح محور المقاومة بعد انسحاب الجيش الصهيوني من جنوب لبنان في 25 أيار/مايو سنة 2000، والذي تلاه بدء انسحاب الجيش الصهيوني من قطاع غزّة في 15 آب/أغسطس، حيث مثّل هذان الإنسحابان تراجعًا مفصليًا في تاريخ الكيان الصهيوني الذي قام على الهيمنة والسيطرة بقوة السلاح والإستيطان كنموذج بديل لتهجير اصحاب الأرض ضمن خطط الترانسفير (الترحيل) المتتابعة التي قامت بها العصابات الصهيونية ما قبل نشوء الكيان، والتي تمت عبر إجراءات مختلفة منها شراء الأراضي من كبار الملّاك الفلسطينيين وإقامة المستوطنات عليها، اضافة الى ارتكاب المجازر وتفعيل الحرب النفسية عبر بث الإشاعات وغيرها من الأساليب لترهيب الفلسطينيين ودفعهم الى الهجرة وإفراغ القرى والأراضي.
ب- النقلة النوعية الثانية وتمثلت في سلسلة من التراجعات الصهيونية بدأت سنة 2006 بعد عدوان تموز/يوليو على لبنان، وكان هدف العدوان بالنسبة للصهاينة ذا بعد استراتيجي يستهدف القضاء نهائيًا على حزب الله كجناح اساسي من اجنحة محور المقاومة وإزالته من الوجود، عبر تصفية قياداته ومصادر قوته العسكرية والإقتصادية والسياسية والضغط من خلال ذلك على سوريا لتنفيذ الإملاءات التي جاء بها وزير الخارجية الأميركي كولن باول سنة 2003 وحاول فرضها على الرئيس بشار الأسد الذي رفضها رفضًا مطلقًا، ونتج عنها إجراءات مضادة بحق سوريا من قانون محاسبة سوريا في الكونغرس الأميركي وصولًا الى القرار 1559 وكذلك سلسلة الإعتداءات على قطاع غزة من سنة 2008 حتى سنة 2014.
خلال هذه الإعتداءات شهدنا اعلى مستوى من الهمجية والوحشية والتدمير الذي طال لبنان وقطاع غزة في محاولة لكسر روح الصمود وارادة القتال والتعجيل بحسم الحرب، التي كان مقرّرًا لها ان تكون مجرد ايام قليلة في لبنان يحقق الكيان الصهيوني من خلالها استعادة قوّة الردع عبر القضاء على حزب الله، لتأتي النتيجة معاكسة تمامًا حيث استطاعت المقاومة عبر اجراءات الحيطة وخطط الإخلاء ان تمنع استهداف القادة وان تطيل امد المواجهة الى 33 يومًا من القتال المتعدد الأنماط، وعبر المفاجآت في البر والبحر التي صعقت القيادة الصهيونية وأربكتها ومعها القيادة الأميركية التي اصيبت في الصميم وبدأت تبحث عن مخارج لإنهاء الحرب.
الأمر نفسه حصل في غزّة، في عدوان 2008 – 2009 الذي استمر 22 يومًا، وفي عدوان 2012 الذي استمر اسبوعًا واحدًا، وفي عدوان 2014 الذي استمر لـ51 يومًا.
بمعزل عن نتائج العدوان والخسائر الكبيرة في البنية التحتية والأرواح التي لحقت بلبنان وقطاع غزة، وهي برأيي الضريبة الطبيعية كناتج لقرار الصمود والمقاومة والتي عكست عدم قدرة الجيش الصهيوني على كسر ارادة القتال للمقاومة والشعب، فإنّ ما حصل بالنسبة للكيان الصهيوني يشكّل بداية نهاية الكيان الذي تضرّر كثيرًا في أصل الفكرة التي قام عليها، وهي الهجرة الى فلسطين المحتلة، حيث استطاعت المقاومة اللبنانية عبر استهداف مستوطنات الشمال ان تجبر مليون ونصف المليون مستوطن على الهجرة الى وسط فلسطين المحتلة وان تبقي مثلهم عددًا قابعين في الملاجئ لمدة 33 يومًا، اضافة الى هجرة حوالي مئة الف مستوطن هجرة نهائية الى البلدان التي أتوا منها.
ت- النقلة النوعية الثالثة تمثلت في نتائج الحرب على سوريا والمنطقة، حيث كان الهدف من إطلاق الحرب إسقاط الدول الوطنية وتفتيتها وتحويلها الى كيانات متناحرة على أُسس قومية وعرقية وطائفية ومذهبية، وهو الأمر الذي تصدّعت مفاعيله بشكل كبير وتعرّض لضربات قاسية يمكن من خلالها القول إنّ محور المقاومة وتحديدًا في سوريا والعراق يوشك على تحقيق الإنتصار على المشروع الصهيو – أميركي وانهاء قدرة الجماعات التكفيرية الإرهابية التأثير في الميدان على المستوى العسكري، مع ضرورة التأكيد أن سوريا والعراق وكذلك لبنان يتجهون نحو البدء بتنفيذ خطط الأمن الوقائي الهادفة الى مواجهة مرحلة ما بعد هزيمة الإرهاب عسكريًا وتقويض الخطط التي يمكن ان تكون هذه الجماعات ومشغلوها قد وضعوها لإبقاء الوضع متوترًا وغير مستقر في الحد الأدنى، إضافة الى البدء بالإستعداد لمعالجة ما يمكن ان ينتج عن الدعوات الإنفصالية الكردية في العراق وسوريا سواء عبر استخدام القوة العسكرية، وهذا احتمال ضعيف، او عبر الحوار المباشر والوصول الى تفاهمات تحت سقف القانون والدستور الجامع في كل من سوريا والعراق وهو الأمر المرجّح.
2- في الدور الوظيفي:
أ- من خلال ما تَقَدّم في الدلالة على نتائج الصراع وتوجه العدو الصهيوني منذ ما بعد انسحابه من لبنان سنة 2000، وبدئه العمل على تغيير مجمل عقيدته العسكرية التي تتجه اكثر نحو الدفاع، والدليل هو سلسلة المناورات التي اطلق عليها اسم "تَحَوّل" والتي امتازت بمقاربة التحديات المرتبطة بالجبهة الداخلية انطلاقًا من الوقائع الناتجة عن المتغير الكبير في ميزان القوى والذي يبدو انه يميل الى الصعود بالنسبة لمحور المقاومة والهبوط بالنسبة للكيان الصهيوني، تأتي مناورة فيلق الشمال وسلسلة الإعتداءات الجوية في سوريا في سياق المحاولة لرفع الروح المعنوية والإيحاء بإستمرار قدرة الردع الصهيونية، وهي برأيي لن تفضي الى الغرض الذي يتوخاه الكيان حيث نحن الآن امام تعاظم كبير لقوى المقاومة وعملية ربط للحدود بين سوريا والعراق وما سينتج عنها من تثبيت وتفعيل لخط الإمداد الإستراتيجي والذي سيكسر ميزان الصراع في القوى والوسائط، وحيث الكلام الواضح من قادة المحور بأن المواجهة القادمة ستكون على كل الجبهات وحيث ستكون معادلة الرعب مخيفة ومرعبة ولن يكون بمقدور شعب الكيان ان يصمد امام الضربات العنيفة التي ستلحق بالبنى والمنشآت، وهو سيناريو يُعمَل عليه بحيث سيكون قاصمًا وناجزًا وسيُلحق بالكيان اضرارًا ترتبط بوجوديته وليس فقط تحقيق خسائر موضعية فيه.
ب- امام التحولات الحاصلة والقادمة سيفقد الكيان تدريجيًا دوره الوظيفي وسيتجه اكثر لتفعيل منظوماته الدفاعية لتحسين شروط استمراره وبقائه، وهو أمر ليس خياليًا او مجرد تمنيات ويعرفه الخبراء في الكيان جيدًا قبل خبراء محور المقاومة ويعملون على ايجاد الخطط الكفيلة لتلافي حصول ما يسمونه بالمصيبة الكبرى.
وعليه، فإننا ومن منطلق الوقائع والمعرفة الدقيقة بطبيعة القوى واستنادًا الى قوانين الصراع، نؤكد ان قدراتنا على المواجهة وتحقيق الهزيمة في الكيان الصهيوني باتت اكبر بكثير ممّا كانت عليه وسيكون بمقدورنا حتى في الوقت الحالي ادارة المواجهة ولو كانت بتوقيت العدو حيث الخطط المُعدّة جيدًا، ورغم ان هذه المواجهة ستكون موجعة لنا إلّا انّها ستكون كارثية على العدو ولن يكون بمقدور احد تعويضه الخسارة الكبرى التي ستلحق بأصل فكرة وجوده، وهي الهجرة المعاكسة التي استطيع ان اتخيل مشهديتها بانتظار الصهاينة السفن التي ستنقلهم من شواطئ فلسطين المحتلة الى البلدان التي اتوا منها.