.هـــــل بـــــدأت جــــــذور أمـــــريـكا تتفـــــــلت مـــــن المنــــــطقة ؟……..
……….هــل جــاء ترامـب التـــاجر ليفــصل بيـن السيـــاسي والاقتـــصادي ؟………
……… الشـــعور بفــــرط القـــوة دفـــع الرؤسـاء الأمريكـيين إلـى الرعـــونة………
المحامي محمد محسن
لكل أمر سببا ، ولكل مقدمات نتائج ، لكن الانتقالات النوعية التاريخية تحتاج إلى تراكم مقدمات ، ولا تحدث بالصدفة ، أو نتيجة حدث واحد مهما كان كبيراً ومؤثراً ، وبخاصة في انتقالات دولة كبيرة كأمريكا من مرحلة ( تملك ) فيها العالم ، إلى مرحلة أخرى متمايزة عن المرحلة السابقة فيها الكثير من التراجعات على مستوى العالم أيضاً ، ـــ وهذا سيكون موضوع دراستنا ـــ ، وغالباً بل يجب أن تفرز المقدمات المتراكمة الداخلية رجلاً يشبهها وابن صيرورتها ، ليتحمل أعباء تحقيق النقلة التاريخية التي يمثلها ، والتي لم يعد الواقع يستوعب تأثيرات تلك المقدمات المتراكمة الضاغطة ، مما يستدعي التغيير .
أحياناً يكون التغيير دراماتيكياً هذا على الأعم الأغلب ، ولكنها وعلى وجه العموم لا تحدث بسلاسة ، لأن التغيير النوعي يستدعي بالضرورة ، تغييراً في الادارة ، واسلوب الحكم ، والدور ، مما يؤدي تلقائياً إلى فرز الواقع الجديد لقيادة هي البنت الشرعية للواقع الجديد أيضاً ، فان كان التغيير سلبياً جاءت قيادة ضعيفة مهلهلة ( غربتشيف ) مثالاً على الهبوط فتشرف على الفكفكة ، ولا أرى الرئيس ترامب القادم من الكارتلات الصناعية ، والذي أخضع السياسة للاقتصاد ، لا أراه إلا من هذا الأفق ، أما إن كان التغيير ايجابياً فسيأتي بقيادة قوية ، وسنؤجل الإفصاح عن من يمثل النقلة الايجابية في هذه المرحلة ، وسنتركها إلى فطنة القارئ .
.
منذ أن تفردت الولايات المتحدة الأمريكية بالميدان السياسي العالمي ، بعد تفكك الاتحاد السوفييتي ، سيطر عليها شعور بالتفرد وبفرط زائد بالقوة وكأنها باتت السيد المطلق ، وهذا ما مارسته فعلياً ، هذا الشعور المتمادي يشمل جميع قطاعات المجتمع ، وينتج حالة من التراخي العامة لعدم وجود عدوفي المواجهة تشحذ له الهمم ، مما أدى إلى وصول قيادات إلى البيت الأبيض ، تتعالى على الواقع الدولي وتستخف به ، وتتعامل معه بصفتها الدولة الآمرة ، وتضاعف ذلك الشعور عندما تداعى بنيان دول أوروبا الشرقية الواحدة تلو الأخرى كأحجار الدومينو ، هاربةً من الحضن السوفييتي إلى حضن أمريكا الفضفاض .
.
فأفرز الواقع الأمريكي قيادات تشبهه مثل ( بوش الأب ، وبوش الابن وغيرهما ) فحركوا الثورات الملونة ، المخملية ومن ثم البرتقالية ، ثم راحوا ينتقلون من نصر سهل إلى نصر أكثر سهولة ويسر ، مزقوا يوغسلافيا ، والعراق ، وجورجيا ، وأكرانيا ، ثم انتقلوا الى الثورات الخضراء ( الربيع العربي ) ، وبدأت في ليبيا ، وتونس ، ومصر ، على نفس الوتيرة ، نصر خلال أيام فنصر يليه ، وهكذا ، حتى وصلت الحرب إلى سورية فكانت العقدة .
.
نسيت أمريكا أو سيطرت عليها الغفلة ، وهي في زهوة الإحساس الطاغي بالانتصارات السهلة ، فلم تعر الاهتمام الكافي لدلالات ، سيطرة بوتن على جزيرة القرم واعادتها إلى الحضن الروسي بالقوة ، والتي تعني سيطرة روسيا على البحر الأسود ، وهذا يفتح لها باب العالمية ، وتجديد حلمها بأن لها الحق باستعادة دورها الذي فقدته .
وهذا الاجراء الكبير كان على أمريكا وجوباً ، أن تأخذه بعين الاعتبار وتبني عليه ، أو يجب أن تبني عليه الكثير من الحسابات الاستراتيجية ولكنها لم تضعه في موقعه من الأهمية ، وإذا ما أضفنا إلى ذلك الاستخفاف الأمريكي في حربها على سورية ، باعتمادها ذات المعايير في حربها على الدول العربية التي انهارت ككومة من رمل ، بذلك تكون قد أخطأت بثلاثة معايير رئيسية :
التطور التاريخي الذي حدث في البحر الأسود وعلاقة روسيا التاريخية بسورية .
وموقع سورية الجغرافي الاستراتيجي ، وعمقها التاريخي الحضاري الذي يذهب بعيداً في أغوار التاريخ ، من السومريين والأشوريين ، والبابليين ، والكلدان وغيرها ، وصولاً إلى الآراميين والسريان ، إلى العرب الذين ورثوا هذه الحضارات .
كما أن المنطق يستدعي أخذ بنية سورية الديموغرافي في ذات المعيار من الأهمية .
.
يجب أن نعترف أن أمريكا وحلفائها وتابعيها من دول الإقليم ، بدءاً من ( اسرائيل ، والسعودية ، وتركيا ، وقطر ، ومن لف لفهم ) ، لم يوفروا جهداً عسكرياً تعبوياً ، أو خبرة ، أو مالاً ، أو اعلاماً ، أو فتاوى بالقتل ، أو تحريضاً مذهبياً ، إلا وقدموه في حربهم على سورية ، فاق جميع الحروب التي خاضوها ، ولكن لم يضعوا في حساباتهم أيضاً موقع سورية الاستراتيجي ، والتحولات الدولية التي أتينا على ذكرها سابقاً .
وأهمية الميدان السوري بالنسبة لدول الشرق الفتية المتطلعة نحو العالمية ، ( روسيا ، والصين ) ، والتي تعتبر سورية بوابتها الضرورية للعالمية ، التي منها ستتمكن من أخذ دورها بما يتناسب وحجم طاقاتها المتفتحة الصاعدة ، وإن أهمية سورية بالنسبة للحلف المشرقي الصاعد ، تفوق أهميتها بالنسبة للمعسكر الغربي المتآكل ، فسورية باعتراف كل الاستراتيجيين هي بوابة الشرق ، لذلك من سورية انطلق الحلف المشرقي لوقف الطغيان الأمريكي الذي اختلت فيه المعايير ، من خلال حالة التفرد والتوحش التي تمارسها ضد شعوب العالم الثالث ، حيث أوصلت شعوب المنطقة إلى الموت جوعاً نتيجة سياسة التغول والتوحش الغربي .
.
لم يعد بخاف على أي متابع أن اندفاعة الهجوم الأمريكي التي كانت تتجه إلى بحر الصين ، لحصار الصين وروسيا عن طريق سورية ، قد أطفئت جذوتها في الميدان السوري ، بل وأن الهجوم العكسي للمعسكر الشرقي ، الذي نازل أمريكا في سورية ، قد حقق انتصارات تعادل خسارات المعسكر الأمريكي ، على جميع الأصعدة الاستراتيجية ، وكذلك محور المقاومة .
.
لم تكن هذه النتيجة التي أكدنا عليها وحدها انعكاس لما آلت إليه الحرب على سورية ، والتي أدت إلى خسارة المعسكر الغربي بكل تشكيلاته ، بل أوصلت هذا المعسكر إلى قناعة أن الحروب الكبيرة بين الدول لم تعد ممكنة ، وحتى الحروب بالوكالة سيحسب المعتدي ألف حساب قبل الإقدام عليها ، وهذه أهم نتيجة أكدتها هذه الحرب المتفردة المتوحشة ، وهذه النتيجة ستشكل تحولاً استراتيجياً في السياسة الأمريكية تجاه المنطقة بشكل خاص ، وعلى جميع الأصعدة وبخاصة العسكرية منها ، لأن القواعد الأمريكية العسكرية التي تغطي المنطقة ، قد تقلص دورها أو يكاد ، لأنها فقدت أهميتها لسببين :
لأن الحروب الكبيرة بين الدول لم تعد واردة ، ـــ ويأتي التهديد الأمريكي الاسرائيلي بشن حرب على ايران ضمن هذا السياق ـــ ، ولا يتعدى الحرب النفسية ، لأن القواعد الأمريكية في كل الخليج وغيره قد باتت تحت رحمة الصواريخ الإيرانية ، ولا نستثني اسرائيل التي تنفخ نفسها ، وهي تعلم أن الواقع الميداني وغيره قد تغير .
.
أما السبب الثاني فهو انعكاس مباشر للسبب الأول ، لما كان دور القواعد العسكرية الأمريكية قد ضاق ، فهذا سيؤدي إلى تقليصها ، أو الاستغناء عن بعضها ، وهذا ما سيقوم به ترامب الذي يقيس السياسة على حجم الربح الاقتصادي ، وهذا سيقود حتماً إلى خلخلة الثقة بجدوى الحماية الأمريكية لدول المنطقة من الحامي والمحمي ، حتى اسرائيل لن تكون بمنأى عن هذه المؤثرات ، بل هي الأكثر تأثراً وستقدم على تنازلات راغمة ، لذلك فإن التحالف بين اسرائيل وممالك الخليج والتي أعلن عنه ، لا يساوي شيئاً في المعيارين العسكري والسياسي ، لأن محميات الخليج ذاتها ستتعرض جميعها لهزات ، قد تُسقط بعضها ، وبعضها ملزم بتغيير وجهته ، وبالتالي لا يستطيع أي من طرفي هذا التحالف المنوي انشاؤه مساندة الآخر ، عندما تحين ساعة التغيير .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ـــــــــــــ
أعود فأثبت القناعات التالية :
أن جذوة الحرب الأمريكية الأوروبية الاقليمية قد أخمدت في سورية .
وأن المعسكر الشرقي قد ولد وتعزز في الميدان السوري ، ومحور المقاومة قد توسع وازداد قوة وتماسكاً .
وأن أمريكا ستعيد حساباتها ، وستقلص قواعدها العسكرية ، وهذا سينعكس على دورها الحمائي في المنطقة .
لأنه…. لا حروباً كبيرة بين الدول بعد الآن ، وستبقى التهديدات الأمريكية والاسرائيلية لإيران وغيرها في حدود التهديد اللفظي .
وما حرب ترامب الاقتصادية إلا استجابة لهذه القناعة ، وتأكيداً لهذا الاستنتاج .
وهذا كله سيؤدي حتماً إلى تغييرات دراماتيكية في المنطقة كلها ، وإلى انتقالات في التحالفات .
بذلك تكون سورية قد ساهمت بتغيير العالم ونقله ، من موقع الخلخلة إلى موقع التوازن .