قراءة في نصّ “ضمائر غائبة: في ساعة الجسد…” للكاتب التّونسي محمد أمين المكشاح
مادونا عسكر/ لبنان
يستجمع الكاتب محمد أمين المكشاح في العنوان “ضمائر غائبة: في ساعة الجسد” المعنى الوجوديّ للجسد وأبعاده الحسّيّة والكونيّة. وكأنّي به في تأمّل خاصّ حول تفاعلات الجسد وحضوره كحقيقة، لكنّها حقيقة تثير في نفسه الكثير من التّساؤلات الّتي تلقى جذورها في الخلق ونموّ الحسّ الإنسانيّ وتفاعله مع الآخر من جهة. ومن جهة أخرى قيمة الجسد المقدّسة بالمعنى الإنسانيّ العميق للقداسة لا بالمعنى اللّاهوتيّ. (في ساعة الجسد) عبارة تجسّد لحظة الوعي المعرفيّ الّذي تغيب فيه كلّ معرفة ملتبسة أو كلّ مخزون معرفيّ متوارث. لا يتحدّث الكاتب عن (جسد) وإنّما (الجسد) واللّحظة المستنيرة الّتي أيقظت في داخله بعداً نهيويّاً للجسد المرادف للكينونة الإنسانيّة. الجسد الجامع للواقع الحسّيّ والبعد الرّوحي الأبديّ. ولقد أتت عبارة (في ساعة الجسد) كقاعدة لما سبقها (ضمائر غائبة)، فأتى لفظ (ضمائر) نكرة مقابل (الجسد) المعرّف. وإن دلّ هذا على أمر فهو يدلّ على تغييب الكاتب لدلالات أو قناعات سابقة وعامّة أمام لحظة تجلّي معرفته الشّخصيّة. فيدفعنا إلى الغوص في هذا النّصّ من باب معرفته الّتي يؤسّس لها من خلال قوله (بين الهو والأنا الأعلى، تبخّرت الأنا في نظريّة فرويد وتجلّينا: أنت وأنا سويّة…) ولعلّه بهذا القول بلغ النّتيجة أو حقيقة الأنا- أنت، أو كأنّي به يقول إنّ البحث يكمن في الأنا- أنت لا في الأنا. فالأنا صورة ناقصة تحتاج للاكتمال بالأنت.
أن يبدأ الكاتب بالنّتيجة فذاك يعني أنّه يقرأ الماضي على ضوء الحاضر في النّصّ، أو يستحضر الشّخوص داخل المنظومة الكونيّة ليجذب القارئ بأسلوبه الخاصّ إلى المشاركة في هذه التّأمّلات والتّساؤلات. فيفتتح النّصّ بجملة شكّلت أساساً للنّص، كما أنّها انطلاق من الزّمن نحو ما فوق الزّمن (أشتهيها، لا أنكر، بل إنّي أؤكّد ذلك…). وإن كان أساس النّص الشّهوة فهو لا يريد بها الشّهوة بالمعنى المبتذل أو الهشّ، بل إنّه ضبط دلالات اللّفظ (أشتهيها) بجعل الشّهوة رغبة عميقة في الاتّحاد بالآخر بهدف الاتّحاد بالمعرفة. الشّهوة، العطش والشّوق بحثاً عن حقيقة لا الشّهوة النّزعة المتحقّقة بنتيجة.
“أشتهي الرّوح فيها والحياة النّابضة في جميع تفاصيلها، أشتهي كلّ ذلك وأكثر إلى حدّ التّعب، إلى حدّ الذّوبان والولادة مرّة أخرى خارج الزّمان والمكان… هي لا تعلم بعد أنّي أختلج حين أتأمّل تجلّيها كلّ ليلة، حين أتحدّث إليها وأخشى فقدانها، حين تشاركني الخيال الّذي تتجلّى فيه الحقيقة أكثر من الواقع، حين أشاركها فراش رؤاي وتتجسّد الأنثى فكرة وأمنية، وهي لا تعلم أيضاً كم أنّ الغواية مقدّسة في حضورها كما في غيابها… عليّ أن أعترف أيضاً أنّها لا تغيب، الفكرة لا تغيب ولا تفنى، الفكرة تذهب بعيداً في جوهري، تحيي تفاصيلي المبعثرة، تنادي بالاكتمال وبالسّلام، بالتّمخّضات وبالحرب…“
(هي) الحاضرة في فكر الكاتب ووجدانه، المتجلّية حقيقة يكاد يلمسها، غائبة في الواقع. الكاتب في حالة وعي للآخر (الأنثى) وقيمتها الحسّيّة والمعنويّة. كما أنّه في حالة إدراك عميق لتفاصيلها لكنّها ما زالت غائبة كشخص. فهو يحاكي الفكرة والوعي والحقيقة الّتي أدركها. ويبرز هنا العمق الفلسفيّ لحقيقة الأنثى/ الإنسان غير المنفصلة عن الرّجل/ الإنسان. يحاكي الكاتب هذا التّكامل وهو في صراع بين الواقع والخيال. فالفكرة حاضرة ويقينيّة لكنّ الواقع مختلف. وكأنّه من العسير أن يلتقي بالحقيقة الأنثويّة واقعيّاً، بيد أنّها تحضر بملامحها وتفاصيلها في كينونته ومعرفته وإدراكه. (عليّ أن أعترف أيضاً أنّها لا تغيب، الفكرة لا تغيب ولا تفنى، الفكرة تذهب بعيداً في جوهري، تحيي تفاصيلي المبعثرة، تنادي بالاكتمال وبالسّلام، بالتّمخّضات وبالحرب…). وكأنّي بالكاتب يقول إنّ الأنثى الحقيقة حاضرة في عمقه، وإنّه في شوق ورغبة شديدة للقائها في ذاته. وما استحضارها في النّصّ وحضورها إلّا تأكيد على أنّ الكاتب يحتاج إلى الآخر (هي) لتكتمل معرفته.
“أفكّر أحياناً أنّ كلّ تلك الفراغات الجوفاء وضعتها لاعتقادها أنّي أشتهي جسدها لا غير، هي لا تعلم أنّي أشتهي كلّ تفاصيلها بلا استثناء ولا استغناء، أنّ كلّ ما فيها يجعلني أتمرّد على النّهار واللّيل لأتأمّل فيها، في كلماتها، في صمتها، في غضبها… هي لا تعلم ماذا يكون لي معها في اللّيل حين تغمض جفنيها…
كيف تسربّت إلى جوهري؟ في تماهينا وعد بميلاد آخر وبعث في عالم لا يهمّ فيه غير احتراق الجسد بنظرة واحدة…”
يشير الكاتب في هذه الفقرة إلى ارتباط الكينونة الأنثويّة بحرّيّته. وما إدراكه ورغبته في تفاصيلها إلّا رغبة وجوديّة في معرفة ذاته وتحرّره من النّقص والضّعف. فبعيداً عن إدراكها يتجذّر نقصه ويظلّ مسجوناً في صورته النّاقصة أو بحثه عن الاحتواء أو عن شيء من التّألّه. (هي لا تعلم أنّي أشتهي كلّ تفاصيلها بلا استثناء ولا استغناء، أنّ كلّ ما فيها يجعلني أتمرّد على النّهار واللّيل لأتأمّل فيها، في كلماتها، في صمتها، في غضبها…) في الشّهوة إليها وفي حضورها اليقينيّ انقطاع تامّ عن المكان والزّمان. وإذا خرج الكاتب من هذه الدّائرة الزّمانيّة المكانيّة حقّق حرّيّته الإنسانيّة على مستوى القيمة لا على مستوى التّحرّر الآنيّ. لذلك يأتي فعل الشّهوة هنا مرادفاً للتّعبّد بمعنى أو بآخر، كصلة حميمة عميقة بين شخصيّن تتخطّى اللّقاء الحسّيّ والرّوحيّ معاً. إنّه اللّقاء بالحقيقة وبالإدراك المتعالي عن المحسوسات. وفي تمرّده على اللّيل والنّهار إشارة إلى تفلّته من الحقائق المحسوسة ليدخل في جوهر يخلص به إلى المعرفة اليقينيّة.
يستخدم الكاتب لفظ (اللّيل) في حالتين منفصلتين، الأولى دلّت على خروجه عن الزّمان والمكان، لكنّ الثّانية دلّت على الصّراع القائم في نفسه نتيجة التّباعد (هي لا تعلم ماذا يكون لي معها في اللّيل حين تغمض جفنيها). يرمز اللّيل في هذه الجملة إلى ظلمة النّفس والصّراع بين الرّغبة والمعرفة، بين الأنا- أنت الحاضرة في النّفس والأنا التّائقة إلى الاتّحاد الكلّيّ بالأنت.
“ذات مرّة أسررت إليها أنّي أرى في الحكاية قدسيّة رغم التّجلّي الواضح للجسد… في البداية ضحكت، ربّما لظنّها أنّي أسخر من الدّين، أقسم أنّي لا أحاول إلّا أن أفهمه، من منظور آخر ربّما، لكن قطعاً لا أحاول السّخرية…
“لا أهمّية للزّمان ولا للمكان حين تلتقي أفكارنا، موعدنا ذاك إحياء للأصل الأوّل، آدم وحواء طُردنا من الجنّة ثمّ التقينا…”
يعود بنا الكاتب إلى الأصل الأوّل، الصّورة الأولى المتكاملة في بحث عن سرّ الوجود الإنسانيّ (الأنا-أنت). ولعلّه يرنو إلى فهم أعمق من ذاك الّذي توارثناه. يحضر الجسد في العلاقة التّكامليّة بين الرّجل والمرأة، لكنّه ليس سوى أساس لما هو أعمق وأبعد. فيمنح العلاقة بينهما طابعاً قدسيّاً يحدّد إطار الجنّة بمفهومه الخاصّ. الجسد هو الحقيقة غير الملتبسة، المتجلّية في الوجود الإنسانيّ والمرافقة بتفاصيلها كلّ اختباره. لكنّ هذا الجسد يحمل في كينونته ما سمح لآدم وحواء باللّقاء بعد الطّرد. إذا كان الطّرد نتيجة للمعصية كما نعلم، فاللّقاء بطابعه القدسيّ ضرورة للعودة إلى الأصل واستعادة الجنّة/ المعرفة، أو الجنّة/ الاكتمال والسّلام أو الظّفر بالأبد. (أنا مسكون بهواجس الأبد…) والكاتب المسكون بهواجس الأبد يحاكي امرأة حاضرة غائبة تشبه الأبد، وتشبهه في إنسانيّته وتفاصيله. (كانت تتحدّث بما يختلج في نفسي، ربّما ذهبت أكثر ممّا ظننت في دخيلتي.) لكن هل من لقاء حتميّ بهذه المرأة السّاكنة في عمق الكاتب؟ أم أنّها تبقى أسيرة الفكرة إلى أن يحلّ زمن آخر، أو إلى أن تتجسّد الحقيقة؟ مع أنّها غير مفارقة له، وغير منفصلة عنه. هي جزء من كلّه وكلّ حاضر في كلّه. حتّى في تأمّلاته يستحضرها ليكتمل التّأمّل ولتكون المعرفة غاية وخلاصاً.
“كانت النّهاية قريبة ولا مناص منها غير التّوقف هناك، على بعد بضع خطوات من اندثار كلّ شيء…
هكذا كان الأمر: لا مزيد من الكلام، لا وداع ولا وعد…
ربّما نلتقي هناك مرّة أخرى…”