“في ما أرى، كوني كاتباً، ليس المقهى مكاناً مغلقاً تتوزع فيه الطاولات والكراسي وتشتبك به الأصوات وحركة الزبائن دخولاً وخروجاً، بل هو فضاء مفتوح، مفتوح على الحكايات والتفاصيل الصغيرة، تنسجها أرواح تهيم وتفرض حضورها، ذلك أنها تتصل بحبل سُرّي بشخوصي الذين يقتادونني إلى مساراتهم وحواديتهم ومآلاتهم. في المقهى؛ وأنا من رواده منذ أيام الجامعة، أختار طاولةً تحاذي الرصيف ما أمكن. تجذبني المقاهي التي لا يفصلها عن الرصيف حاجز؛ وإن وجدت المقهى من هذه الشاكلة مكتظاً، أبحث عن مقهى بشرفة؛ لأطلّ على العالم من علٍ؛ العالم المصطخب بتجاور الأقدام، وتحاور الخطوات، وأصوات الباعة، وهمسات الصبايا، وضحكات الشباب في عمر اليفاعة، ونداءات الإشهار باللهجة المحكية لاجتذاب الزبائن. المقهى مختبري الأثير. مختبر الكتابة وورشتها. وفيه أنصت إلى نداءات الداخل حين تندلع شرارة الكتابة، وتنهمر التفاصيل –سرداً أو شعراً. ولهذا، لا غرابة أن يحضر في قصصي بطلاً، كما في قصتي (هزائم صغيرة.. هزائم كبيرة)، فهو المكان الذي يرسم خطوات البطل.. المكان الذي له روحٌ. هو كائنٌ أيضاً، وله سماته وخصوصيته، وله جوّانيته التي أحاول فضَّها وسبر أغوارها، ليبدو بطلاً هو الاخر. حتى في قصائدي، بخاصة في البواكير، يصرّ المقهى على الحضور:
(مَن أنت؟
مَن أنت بلا وجهٍ..
بلا أسئلةٍ تفضحُ سرَّك؟
ها أنت، ترقبُ
من ناصية المقهى
طلّةَ أنثى
تنأى
تنأى
وتصيرُ بعيدةْ
مَن أنت؟
مَن أنت إذن..
دون قصيدة؟)”.
جعفر العقيلي
من مشاركتي رفقة عدد من المبدعين العرب في ملف بعنوان “المقهى والأدب” بدعوة من صديقي الكاتب والمترجم محمود عبد الغني. نشر في صحيفة “الأخبار” المغربية. والصورة قبل أسابيع بباريس بعدسة العزيز الهواري غزالي
ا. جعفر العقيلي
صحفي و اديب اردني
سكرتير تحرير اليومية الأردنية الراي
مدير القسم الثقافي