م. ميشيل كلاغاصي
24/3/2023
منذ انهيار الإتحاد السوفيتي السابق , انفردت الولايات المتحدة بقيادة العالم , وحاولت صبغه بألوانها , واستبدال ملامحه بأخرى لا تشبه دوله وشعوبه , وسارت بالعالم بإتجاهٍ يعاكس التاريخ والجغرافيا , بعدما تغطرست وطغت , وأعجبها اللهو بمصائر الدول والشعوب , وهز وتدمير أوطانهم , والأمن والاستقرار الدوليين , ولا بأس بتغير الأنظمة وإسقاط بعضها الاّخر, وبفرط العلاقات والتحالفات التقليدية – التاريخية , وبإراقة وسفك الدماء , وكان من المهم لها أن تبدأ من العالم القديم وتحديداً من قلب الشرق , ونقطة توازن العالم , فكانت سورية في عين إعصار مشروعها الخبيث , في محاولةٍ لصنع شرقٍ جديد أساسه الكيان الإسرائيلي الغاصب , وليكون “الشرق الأوسط الجديد” بدوره الأساس لتغيير وجه العالم بشكلٍ جذري.
ومن خلال غطرستها اعتقدت أن الأمر في سورية سيكون بمثابة النزهة , لكن صمود سورية “الجيش , الدولة , والشعب” , وحكمة وشجاعة الرئيس بشار الأسد , استطاعت سورية صد العدوان العسكري الدولي – الإرهابي , والجيو سياسي والإقتصادي , وقلبت طاولة المشروع وخرائطه , بمشاركة فعالة وحقيقية من حلفائها في محور المقاومة , وفي موسكو وبكين وطهران , وبذلك فتحت دمشق باب تحدي الولايات المتحدة وهيمنتها على مصراعيه , وشكلت سورية الصخرة التي اتكئ عليها الحلفاء والعالم الحر لمواجهة العبث والفوضى الأمريكية التي أشاعتها في الشرق والمنطقة العربية وفي أوروبا واّسيا وأفريقيا , وفي عشرات المناطق والأقاليم حول العالم , مع أنها ركزت اهتمامها على استهداف دمشق وموسكو وطهران وبكين.
وحاولت عبر إدارة بايدن وإدارتها المتعاقبة خلال العقد الماضي , التركيز على مشاريع “الشرق الأوسط الكبير” , و”صفقة القرن” , و”الناتو العربي” , وسباق “التطبيع” مع العدو الإسرائيلي , وتوسيع عمق ونطاق “اتفاقيات إبراهيم” , وتشكيل الأحلاف ضد إيران , وإنشاء بنى أمنية جديدة في الشرق الأوسط تحت ذريعة “إحتواء طهران” ، وتعزيز وجودها العسكري في العراق , رغم توقيعها إتفاقية الانسحاب من أراضيه , وتشكيل الكانتونات الإرهابية والإنفصالية , وتثبيت تواجدها اللاشرعي وقواعدها العسكرية في شرق وجنوب شرق سورية , بالتوازي مع دعمها الميليشيات الإنفصالية , ناهيك عن قيامها مئات المرات بعمليات سرقة النفط والأقماح السورية , والإمساك بورقة وتحركات تنظيم “داعش” الإرهابي , وإبعاده عن المشهد تارةً , وبإعادة تدويره وإطلاقه تارةً أخرى , لتنفيذ الهجمات والعمليات الإرهابية على مواقع ونقاط الجيش العربي السوري , وضد الأهالي والمدنيين.
بالرغم من كل شرورها , ودعمها اللا محدود للحروب والفوضى في سورية وأوكرانيا وتايوان , لم تستطع واشنطن إخفاء تراجعها وتضاؤل نفوذها , وقدرتها على دعم وإحياء مشاريعها الخبيثة في جميع الساحات التي أشعلتها عسكرياً أو سياسياً وإقتصادياً وتجارياً , ولم تحقق سياساتها للحصار والعقوبات الأحادية من جانب واحد النجاح , إن كان بالنسبة لسورية ولبنان والعراق وروسيا والصين وعشرات الدول أيضاً , وبدأت مشاهد الحصاد المعاكس بالظهور , وشهد العالم تنامي وتعزيز العلاقات السورية الإيرانية الروسية الصينية الإماراتية السعودية اليمنية المصرية والجزائرية , بالإضافة إلى زيادة أعداد الدول المنضمة إلى منظمة شنغهاي ومجموعة البريكس كالسعودية والجزائر ومصر, بالتوازي مع تراجع الدور الأمريكي والفرنسي في المنطقة العربية واّسيا وأفريقيا.
بات من السهولة بمكان , رؤية التغييرات التي تحدث في الشرق الأوسط بشكل خاص ، ليس فقط بسبب التراجع الواضح لهيمنتها على المنطقة , بل أيضاً بفضل جهود كل من روسيا والصين وتعزيهما لعلاقاتهما مع غالبية الدول في الشرق الأوسط , وبات تكثيف الزيارات والوفود السياسية والإقتصادية عنوان المرحلة , مع رؤية الزيارة الهامة للرئيس السوري بشار الأسد إلى موسكو التي تشارك وطهران بمساعدة أنقرة ودمشق على فكفكة العقد الشائكة , وإنهاء التواجد العسكري التركي اللا شرعي على الأراضي السورية , والتوصل إلى الحلول والسلام بعد ضمان الإلتزام التركي بمطالب دمشق المحقة , كذلك زيارة الرئيس الصيني المرتقبة إلى موسكو , بالإضافة إلى بعض الزيارات العربية الرفيعة المستوى المتوقعة قريباً إلى سورية.
في الوقت الذي تكثف واشنطن من زيارات جنرالاتها العسكريين إلى الشرق الأوسط , كالزيارات التي قام بها وزير الدفاع الأمريكي لويد أوستن إلى الأردن و”إسرائيل” ومصر والعراق (بغداد وأربيل) , وزيارة رئيس هيئة الأركان المشتركة للقوات المسلحة الأمريكية ، الجنرال مارك ميلي ، السرية إلى “إسرائيل”, ومنها نفذ زيارةً غير شرعية وقحة استفزازية علنية إلى شمال شرق سورية ، أدانتها الخارجية السورية , وإعتبرتها “تمثل انتهاكاً صارخاً لسيادة وحرمة أراضيها ووحدتها”.
بات واضحاً أن الحراك السياسي الحالي في الشرق الأوسط , يكتسب زخماً جديداً , في ضوء الآفاق الجديدة للتقارب الإيراني السعودي ، وزيارة الرئيس بشار الأسد إلى موسكو , واللقاءات الهامة التي عقدها مع الرئيس فلاديمير بوتين بحضور وزراء الخارجية والدفاع والمالية ومساعد الرئيس للشؤون الدولية ، تشير بحد ذاتها إلى قائمة ونوعية الموضوعات الهامة التي تمت مناقشتها ، والتي أبدى الطرفان اهتماماً خاصاً بها , والتي بدورها تصب في صالح زيادة تطوير التعاون السوري الروسي في المجالات السياسية والتجارية والإقتصادية والإنسانية، وآفاق التسوية الشاملة للأوضاع في سورية وما حولها , وبتأكيد الرئيس الأسد على حقيقة “حاجة العالم إلى الاستقرار”.
بات من المؤكد أن التراجع الأمريكي في منطقة الشرق الأوسط , سيمنح دول وشعوب المنطقة فرصة استعادة الأمن والإستقرار, خصوصاً مع الحضور الهام للرعاية السياسية والإقتصادية والدبلوماسية الصينية الروسية , لكن هذا لا ينفي حاجة دول وشعوب المنطقة للتعلم من دروس الماضي البعيد والقريب , ولما يعنيه العبث والهيمنة الأمريكية , وأثمانهما الباهظة , للمضي قدماً نحو مستقبلٍ جديد , ترسم ملامحه دول وشعوب المنطقة بأياديها بعيداً عن التدخل الغربي المدمر.
م. ميشيل كلاغاصي
24/3/2023