دراسة نقدية تحليلية
القصة الشعرية و الأسلوب الفني في قصيدة
زغبٌ جناحي للشاعر عبد الفتاح المطلبي
زَغَبٌ جَناحي لا يُجــــــــيدُ رفيــــفا
وغُرابُ هجرِكِ لــــيْ يدفُّ دفيفا
عاقبْتِني بالنــــــــــأيِّ دونَ جنــايةٍ
زفمتى أرى لعقــــــــوبتي تخفيفا
ومتى أراني خاليـــــاً من لوعتي
وأراكِ من بيـــــن الأنـــــــامِ أليفا
وأراكِ مــاءً بارداً عنــد الصـــدى
وأراكِ في سَــغبي أتيــتِ رغيفا
أنا عالقٌ راضٍ بفخــــــــك مؤمنٌ
وكأنّ جنّـــــــــاتٍ بهِ وقطــــــــوفا
أغلقتُ أضلاعي عليـكَ فلا تَطرْ
يا قلبُ واثبتْ بــيْ وكُـفَّ رجيفا
إن كان فوزاً بالحـــــــريّ منــــــالُهُ
أو كانَ خُسراناً فلســــــتُ أسيفا
شفتاكِ كـــــأسٌ والرَواءُ سُـلافُها
وأرى فؤادي صـــــــادياً ملهــوفا
أنا قد عرفتُ منيَّتي مــن نظــرةٍ
ألقتْ علي مـــن الرموشِ حتـوفا
يا أبرعَ العُذّالِ لســـــــتُ معــاتباً
دعني ولا تُزِدْ الجــــــراحَ نزيـــــفا
هبني قصدتُكَ شــــــاكيـا متبرماً
فلأنني أُسقى العـــذاب صنوفا
فافعلْ جُزيتَ بما تشـــاء فإنّ ما
أخشاهُ منــكَ اراهُ بـــــــيْ مألـوفا
ونضوتُ صبراً كان يسترُ لوعتي
ولبستُ عِشــــقَكِ بالنّــهارِ شفيفا
ولقد هويتُـــــكِ دونَ أيِّ بصــيرةٍ
بل كنتُ في دنيـــــا الغرامِ كفيفا
قد كنتُ قبلَكِ هائماً مستوحِشا
فسكنتِ ما بين الضـــلوعِ رديفا
قلبٌ حباكِ ســــــــــلامَهُ وأمـــانَهُ
فغدا بأخطار الهــــــوى محفوفا
فتّشتِ كـــــلَّ خبيــئَةٍ من نبضهِ
فوجدتِهِ بين القلـــــوبِ نظـــيفا
إن لمْ يكنْ وجـــــعاً هواكِ فإنهُ
يمسي بدَستورِ الهـــوى تحريفا
سرّي وســـــرُّكَ طــــائران وحبُّنا
شَجَرٌ يرى نأي الحبيــــبِ خَريفا
قد كان قبل النأي بُرعمُ غُصنِهِ
حالَ اللآلئ فـي المحـارِ عفيفا
ما مرّتِ النسَــماتُ فـي أرجائهِ
إلاّ وأورثَ فــــــي الفؤادِ حفيفا
الدمعُ يسقيهِ فيخضــلّ الهوى
ظلاّ إذا طلعَ النـــــــهارُ وريــــفا
سَجعُ الحمامِ به وشـــــدوُعنادلٍ
أضحى لهُ القلبُ الشــديد رهيفا
حتى إذا اقتحمَ الفراق حصونَنا
وبدا عدواً لا يُــــرامُ عنيـــــــفا
وعلمتُ أنّ الأمنيـــــات تبددتْ
وغدوت من أثـــــرِالفراقِ دنيفا
ناديتُ يا ذات الجَمــــالِ ترفقي
فالقلبُ بــــاتَ بقاتلي مشَغوفا
إنْ تقتليهِ بنظـــــــــــرةٍ فلربما
تحيينهُ إنْ شــــئتِ بيْ معروفا
الأسلوب القصصي :
يأخذنا الشاعر إلى عالمه الإبداعي من خلال العتبة الأولى العنوان (زغبٌ جناحي) فنرى بعين الخيال طائراً أزغب الجناح لا يزال غراً في كناية واضحة عن صغره فهو لا يجيد التحليق بينما يشبه من يهجره بالغراب الذي يصفق جناحيه على جسده لأن الهجر أسود كالغراب قادر على التحليق و يجلب أخبار السوء حسب المثل الشعبي و نلاحظ عمق الصورة الشعرية في مقابلة بين صورة الشطر الأول مع صورة الشطر الثاني، و يخبرنا المبدع عن العقوبة التي حلّت به فالبعد و الفراق عقوبة لحقت به و جلَّ ما يتمنى أن يخلو من لوعة الفراق و أن تألف إليه الحبيبة دون كل الخلق، فوصال المحبوبة بالنسبة إليه كالماء البارد يروي ظمأه و كالرغيف الّذي يشبع جوعه، و يستمر المبدع بأسلوبٍ خبري تقريري أنا عالقٌ.. فهو مأسور و راضٍ بأسره و عالقٌ بفخِ من يحبّ و مؤمن و في حالة من التسليم بالقضاء و هذا الفخ يراه جنةً بل جناتٍ و منها سيقطف أجمل القطوف و الثمار.
و لا ريبَّ إن المزج بين أسلوبي الخبر و الإنشاء يمسك بتلابيب المتلقي فهو يشفق على قلبه أن يطير من بين ضلوعه و يستمر بارتعاشه كالطائر الحبيس و يطالبه بالثبات.
وما أشدّ حالة العشق و الهيام في قوله:
إن كانَ فوزاً بالحـــــــريّ مناله… أو كان خُسراناً فلستُ أسيفا
فتبدو حالة الغموض بما يودّ الفوز به و إن دلَّ عليه المضمون
فالحري به نوال وصال من يحبّ و أقرَّ إنّه لن يأسف لخسرناه
……..
جماليّة التوصيف :
و ينتقل إلى توصيف المحبوبة فقد شقَّ عليه أن يلتزم حالة الغزل العذري فمزج بين الوصف الواقعي و الكأس و الخمرة الصوفية (السلاف)، فقلبه صادٍ عطش متلهف لشرب السلاف
فالصورة معنوية وليست حسيّة، و لابدّ للمبدع من حالة الإعتراف فهو يقدم ضمير المتكلم أنا ليدلَّ على الغنائية الذاتية و يؤكد الفعل الماضي ليعترفَ إنّ نظرة من المحبوبة كافية لقتله و تجرّ رموشها حتفه بل موته المتكرر ( حتوف)
و للعذال دورهم في قصتنا الشعرية فالعاذل بارع في تأنيبه و يطلب إليه من خلال الإنشاء الطلبي دعني… خلي عني.. ولاترد و يشكو من يلومه فقد وصل إلى حالةٍ من العذاب فشكا لصاحبه ما يضنيه، و يبدو إنّ الشاعر ارتدى الصبر كالثوب لذلك يقول:نضوتُ… و نضى عنه الثوب خلعه ولكن الصبر لم يستر بدنه بل لوعته…..
و أقسى ما يمرُّ به أن تبدو عليه آثار ما يمرُّ به فخلعَ عنه الصبر الذي ارتداه ثوباً و ظهرت عليه إمارات العشق في وضح النهار و كأنّه شفافٌ يراه الجميع.
و يؤكد هذا الهوى تماهياً مع مقولة:مرآة الحبّ عمياء
في قوله هويتك دون بصيرة.. بل كنت في دنيا الغرام كفيفا
متقاطعاً مع بيت الشافعي:
عين الرضا عن كلّ عيبٍ كليلةٌ…
و عين السخط تبدي المساويا
فقد أعمى الحبّ بصيرته و أضحى أعمى في هواه.
تأثيرات المحبوبة في المبدع:
يجري الشاعر مقارنةً بين ما كان عليه من وحدة و اغتراب و تأثيرها بعد أن ردفت قلبه كتابعٍ مواكبٍ لا ينفصم عنه و ينكّر قلبه متعمداً ( قلبٌ) منحها أمانه و سلامه فتغيرت أحواله و احاطت به مخاطر الحبّ و بحث في خبايا و حنايا قلبه فلم يجد غير النقاء و الطهر… و يستمر تأثيرها فالبعد يؤلمه و يؤثر ألماً و أسى فقوانين الحبّ ثابتة لا تتغير.
و يشبّه سرّ الحبّ بطائرين عاشقين و قد نما شجر الحبّ معتبراً البعد الخريف الذي حلّ بأيكه
و يأسف لما حلّ به و آلَ إليه حالُ قلبه فقد كان كالبرعم المتفتح على غصنه بل هو كاللؤلؤ المحفوظ في أصداف المحار لا يُمسّ… و هذا القلب كالأشجار التي تهزها نسيمات الهوى فتصدر حفيفاً كهمس أوراق الشجر
و يعتصر الشاعر حزنه دموعاً فينمو الحب و كأنه يروى بالدموع و تغدو له ظلالاً كلما أشرقت عليه شمس النهار
و سكنته الحمائم و العنادل فأرهف قلبه السمع و أرهفت حواسه منصتاً لهديل الحب و عندلة العنادل…
و يجري بنا المبدع بأسلوبه الشعري القصصي ليصلَ إلى مرحلة الفراق الذي شبهه بعدو يدك حصون قلبه و هو عدو غير عنيف تسلل بهدوء محتلاً حبهما… و يؤكد في نهاية القصة إن أمنياته تبددت و غدا مدنف القلب معذب بفعل الفراق فينادي حبيبته أن ترفق به فهو شغوف بها و يكفيه نظرة واحدة ليحيا من جديد فيتوسلها أن تمن عليه بنظرةٍ
إن أردت أن تصنع المعروف في أهله.
الأسلوب الفني :
………………..
المبدع قاص و شاعر يجيد توظيف أدواته الفنية بحرفية عالية فقد طاعت له الّلغة لينسجَ قصة شعرية استخدم فيها قدرته العميقة في النظم و صوغ الألفاظ الجزلة في مواطن القوة و السهلة المأنوسة في موقع الضغف و اللين فتارةً نجمح مع الخيال لنرى طيري الحب و أخرى نجد الفراق يتسلل كعدو يحبط مساعيه…
و لا يفوتنا في البنية الفنية المحسنات البديعية مثل التصريع في البيت الأول:رفيفا.. دفيفا
و المقابلة بين صورة و ما يقابلها في الشطر الثاني…
و الاشتقاق الداخلي :عاقبتني… عقوبتي
قلب.. فؤادي… أراني…. أراك والكثير غيرها
و تناغم حروف الهمس و الجهر :زغب… جناحي.. هجر.. فراق
و تكرار الأحرف مثل الفاء و الحاء كثيراً
أما عن الموسيقى الخارجية:
فقد أحسن اختيار البحر الكامل
كمل الجمال من البحور الكامل متفاعلن متفاعلن متفاعلن
وبعض الجوازات… و القافية من قبل أخر متحرك إلى أخر ساكن و روي الفاء المشبعة بألف الاطلاق وهي الأكثر قدرة على إطلاق النفس و إزاحة الهم عن قلب الشاعر.
و القصيدة رائعة التوصيف متكاملة المبنى و المعنى و التجربة الشعورية نستطيع أن نكتب حولها كتاباً واكتفي بهذا القدر آملة أن تلقى صدىً عند القرّاء
د. آسيا يوسف