في مكان يجمع مابين عبق الحضارة والتاريخ وملامح العصرنة، يقع مرسم الفنان التشكيلي عهد الماغوط، وسط مدينة سلمية. والماغوط فنان تشكيليّ بالمجمل، وذلك لأنه يتجوّل مابين الفنون الجميلة ( النحت والرسم ) ومابين حرف يدوية، تخطُ أثرها البديع بأصابعه الماهرة على الخشب والمعدن والحجارة، وتتقن مجسمات حرفية يدوية غاية في الدقة والجمال.
تتميز أعمال عهد الماغوط المؤنسنة بمحاكاة الواقع من خلال ضروب كثيرة، فهو يُبحر في عميق التاريخ حيناً، ويستقرئ الواقع بعين المستقبل حيناً آخر، فتجده يمخر الأسطورة ملاحاً عتيداً، ليجني من كنوزها قيماً إنسانية وجمالية عليا.
والمادة في يدي عهد مطواعة لفكره، فيجد المُتلقي لأعماله الفنية، غنىً وتنوعاً في المحاكاة، لأنها لا تقف عثرة في وجهه لتحويل الفكرة إلى عمل ملموس أو مُشاهَد، بل تستسلم بكل رُقيّ ليحولها من كتلة صمّاء أو لون جامد، إلى ساحة من الحيوية والنشاط تتراقص أمام ناظريه بمعانيها.
في البحث عن أسلوب الفنان في النحت أو الرسم أو التشكيل، نجد أنفسنا أمام ثراء كبير ومتنوع من المَدرسية إلى الإبداعية، مما أعطى للفنان مساحة كبيرة من الحرية في تشكيل أعماله واختيار الأسلوب المناسب للفكرة والتنفيذ، فلم تقيده مدرسة بعينها، بل تنقّل بينها ليختار لموضوعاته آلية التنفيذ والتقنية، بحيث امتازت أعماله النحتية بالليونة والمرونة، وانسجمت تقاطعاتها وحدودها مع الفكرة في تناغم جميل، أما ألوانه فتُقرؤك بنضج وتقنية لخبرة مَكينة في التعامل مع مزج الألوان.
يعمل الفنان عهد الآن في صومعته التي تضم مشغلاً حرفياً ومرسماً فنياً، بالإضافة إلى مساحة رائعة من حيث البناء والتصميم، تشبه إلى حد كبير في طرازها المعماري، البيوت الأثرية القديمة، بين جدرانه ومشربياته وقناطره الخشبية التي عُتّقت وحُفظت بالحجر الأزرق (الأسود).
حدثني كثيراً عن أحلامه وتطلعاته ومشاريعه المستقبلية، ولمست في نبرة صوته وحركات جسده وتعابيرها، حجم الشوق والرغبة لرؤية أحلامه الفنية تستكمل أركانها على أرض الواقع، ليكون منارة وخلية ثقافية لا تقف عند حد معين من الأفكار والخطط، لتقديم مادة جمالية غنية بروح المتعة والنقاء.
هذا الحلم الذي لمس أولى خطواته الواقعية بفطرة الطفولة التي عاشها في اللاذقية جراء انتقال عائلته إليها على أثر القحط الذي حط بأثقاله على مدينة سلمية في ستينيات القرن الماضي، لكنه أزهر في داخله من خلال بذور الابتكار والإبداع والبحث الذكي في كيفية عمل الأشياء، ومن ضمنها الحركة الميكانيكية، وهذا مايفسر محاولاته ضمن هذه الطفولة المبكرة إلى صنع الزحافة الخشبية ( السكوتر ) ذات الدواليب المعدنية أو الطائرة ذات المحرك الواحد.
أما شغف الفن ومتعة البصر والحركة، فجعله يصنع التلفاز من خلال صندوق خشبي وستارة وأوراق مرسومة تتلاحق وراء بعضها خلف شمعة، كانت له بمثابة الضوء الذي يكشف له زوايا الإبداع في شخصيته، والتجسيد اللاحق للخشوص في أعماله النحتية التي انطلقت من عالم الخيال إلى بناء الكتلة.
أما في المرحلة الإبتدائية، فقد بدأ بالرسم من عائلته، لتكون نقطة انطلاق له نحو عالم الفنون الجميلة، والذي تفرغ له بشكل كامل بعد التقاعد الوظيفي.
وعن سؤاله حول كيفية توظيف مشاعره في العمل باختلاف المادة أو الكتلة التي يعمل عليها، أكد بأن الفكرة هي الأساس في تحريك المشاعر وتوظيفها، والتنوع أحياناً في نفس العمل يتطلب مزج كل المشاعر التي تخالجه، وهو تنوع وغنى نوعي وليس كمي ينعكس على الشكل الجمالي للعمل.
وعن شكل وواقع الفن السوري الحديث، بيّن أن الأزمة قد أرخت بظلالها على الحركة الفنية التشكيلية، وأثرت عليه كباقي مناحي الحياة الأخرى، حيث مرت سابقاً بمد وجزر وتطور، وقد بدأت بالعودة إلى سابق عهدها، رغم أنه ليس بالتطور المطلوب والمرتجى من الفنانين والمؤسسات المختصة، وهذا ماينطبق مثلاً على الدراما والسينما في عصرها الذهبي، ومع ذلك فهو يبقى محافظاً على الحد الأدنى من العمل والتطور.
يذكر أن الفنان عهد الماغوط من مواليد مدينة سلمية، عام1959 عمل موظفاً في مديرية الزراعة، وهو متفرغ حالياً للعمل الفني وتعليم الفنون الجميلة في مرسمه الخاص.
وجلّ ما تمنيته بعد زيارتي لمرسمه، أن أرى أعماله النحتية ترى النور، وتزين الساحات والحدائق، لما تحمله من بُعد جمالي وتكويني وإنساني يعكس الحالة الحضارية للمجتمع.