“الخطاب الحداثي النقدي:مراجعات في قضايا الغموض والتباس المنهجية” دراسة جديدة في مجلة أدب ونقد، القاهرة، 2023.
وملخص هذه الدراسة أنها تستهدف رصد ظاهرة الغموض التي اكتنفت الإبداع والتنظير والنقد فيما يسمى حقبة الأدب الحداثي، حيث نطرح في هذه الدراسة سؤالا مفاده: هل انتهت حقبة الحداثة العربية نقدا وإبداعا؟ ذلك هو السؤال الذي نسعى إلى الإجابة عنه في هذه الدراسة. ونفترض ابتداء أنها ليست موضة ملابس كي تنتهي بصعود موضة أخرى، وإنما هي أفكار تتشعب وتنتشر، تؤمن بها العقول، وتتشربها النفوس، وتظل ثابتة بها إن لم تتم مراجعتها، فهي طرائق للتفكير والنظر، وأساليب في الكتابة والإبداع؛ دأبت عليها النفوس المبدعة، حيث بدأت بها في نشأتها.
ومن هنا، فإننا لا نحيي خطابا قد أُميت، بل نناقش خطابا لا تزال له أصداء، قلّت كانت أو كثرت، ولكنها في الحقيقة موجودة، منها ما هو متوارٍ خلف قناعات نراها في نوعية الحكم على النصوص، ومجادلة المبدعين التي ينتهجها العديد من النقاد الحداثيين، ومنها أيضا ما نجده في نصوص المبدعين أنفسهم، الذين عاصروا حقبة الحداثة الأدبية العربية في سبعينيات وثمانينيات وتسعينيات القرن العشرين، وهضموا أفكارها، ورددوا مقولاتها، وللأسف لم يقرأوا المراجعات النقدية التي نقضتها، وأعادت النظر في مفاهيمها وفلسفاتها. حتى وإن قرأها بعضهم، فإنهم آثروا –في غالبيتهم– السير فيما بدأوا به مسيرتهم الإبداعية، فقد عرفوا طرائق إبداعية وخبروها، ولذا، هم غير مستعدين للتغيير، الذي قد يأتي بما لا يشتهون ولا يعرفون.
فمن المهم مناقشة أزمة الخطاب الحداثي على الصعيد النقدي، الذي هو الوجه الآخر للصعيد الإبداعي، فما النقد إلا إعادة قراءة وتفسير وشرح وتأويل للنصوص الإبداعية، فنستطيع من خلاله فهم توجهات الإبداعات عندما نتعرف على مقولات النقد عنه، مثلما نحن قادرون أن نفهم الصدى النقدي عندما نقرأ النصوص الإبداعية.
فالخطاب النقدي الحداثي العربي على مستوييه التنظيري والتطبيقي؛ كان غامضا، وملغزا، وحافلا بالمصطلحات الملتبسة في بنيتها، والمختلف على دلالاتها، مع كثرة التفلسف، وتطعيم هذا الخطاب بالنعوت والإضافات والمصادر الصناعية، التي جعلته قريبا من الخطاب الفلسفي؛ مما أبعد القارئ عن النقد والإبداع معا، وتلك الطامة الكبرى، لأن من مهام الناقد أنه وسيط بين النص والقارئ، مثلما أنه كاشف عن جماليات ودلالات وأبعاد في النص قد لا ينتبه إليها المبدع ذاته، وكذلك القارئ بالتبعية على اختلاف درجاته ومستويات تلقيه وذائقته.
لقد كانت المعركة في ظاهرها رفضا للحداثة الغربية وممثليها من الحداثيين العرب، ولكن باطنها كان محاولة لاستعادة الهوية العربية أمام خطاب تغريبي في مرجعيته ومصادره، مارس استعلاء فكريا على الذات الثقافية العربية الراهنة، وتمترس وراء مقولات الحداثة بما تحمله من عصرنة وتقدم، أمام واقع عربي مزرٍ متأخر.
واشتدت المعركة مع ما أفرزته الآداب الحداثية العربية: شعرا وقصا وفنونا من نصوص غامضة، أبعدت المتلقي العربي عنها، مع اتهامات باللوغاريتمية تسابقها، وردّ المبدعون الحداثيون بحجج على شاكلة أن الكتابة للنخبة وليس العامة، وأنهم يكتبون للأجيال القادمة التي ستفهم نصوصهم، لأن الذائقة العربية الحالية غير واعية ولا هاضمة لها، علما بأن لكل جيل مبدعيه، ولا يمكن الكتابة لجيل مستقبلي، وإهمال الكتابة عن جيل حالي معاصر للمبدع. وهكذا تشعب الصراع وتعددت أبعاده.
فقد كانت طريقة تقديم المناهج الحداثية يغلبها الغموض، ويغيب عنها التطبيق المثمر، الذي يبرهن للقارئ العربي أن المناهج الحداثية تضيف بالفعل الجديد للنص الأدبي موضع الدراسة، وأنها تكشف منه ما لم تكشفه المناهج النقدية التقليدية، وكان ذلك واضحا في الحقبة الأولى من تقديم النقد الحداثي العربي، حيث كان المشهد معقدا، واللغة ضبابية، قبل أن يتطور بعد ذلك، وتنضج عدد من الأقلام النقدية، وتقدم المناهج الحداثية بشكل أوضح، وبتطبيقات أعمق، نقول البعض وليس الكل، فلاشك أن سمة الغموض وتداخل المنهجيات، والتباس الخطاب ظلت كائنة لفترة طويلة.
إن تطوير مناهج النقد الأدبي في الساحة الثقافية العربية لم يكن ليتأتى إلا بالاطلاع على المنجز النقدي الغربي، وعلى فلسفاته المنبثقة منها، على أن يكون اطلاع مثاقفة وليس استلابا، واطلاع محاورة وليس انقيادا، واطلاع استفادة وليس استهواء؛ أي تتم عملية المثاقفة من خلال ترجمة أمهات كتب النقد، ومدارسه، والتعريف بها بشكل موضوعي، دون انبهار أو اختيال من الناقل، ودون تنديد أو إنكار من المنقول إليه.