دراستي عن ديوان”هكذاغنى الفرات”للشاعرة أمل محسن المناور في صحيفة الأسبوع الأدبي
الصادرة عن اتحاد الكتاب العرب بدمشق في العدد1669/ الأحد 22/12/2019
*خلف عامر
ورد في قاموس المعاني:”تعالق الشَّيئان : أمسك كلٌّ منهما بالآخر”، ولعلّ الشاعرة أمل مناور في ديوانها – هكذا غنى الفرات -، وقعت تحت تأثير هذا التعالق الروحي مع المكان، والبعد القسري عنه بفعل الأزمة التي حلت بوطنها جعلها تتمسك به وتناجيه، كيف لا وهو وسمها الحقيقي، ولذا نطق صوتها المحشو بالأسى والاغتراب بحبه حد التوحد، كيف لا وقد تشكّلت رؤاها على تفاصيله، وفي هذا النص ينطق المونولوج، مايؤكد على تأجج حنينها للمكان بكل تفاصيله، والغياب جعل صوتها يتمرّد ويخرج من عوالمها الجوانية على شكل صورة شعرية تحتمل التأويل الخاص عند أغلب القرّاء، لكنه دلالة الصوت أكبر بكثير من ذلك، إذ لم تقل “غيابي” بل قالت “غيابك”، فالمكان ثابت لايتحرّك، لكنها خاطبته وكأنه إنسان، ومن احتمالات الألف لغيابه، قد يكون الجنون، أو الموت كمداً، ودلّل النص على أن المكان هو – الشوق – الجواب – السؤال – الكلام – كل شيء بقولها:
( وهذا غيابُكَ يتركُ في داخلي ألفَ شوقٍ
و ألفَ احتمالْ …..
أحبكَ ، لا تسألني لماذا ؟
فأنتَ الجوابُ و أنتَ السؤالْ …..
و أنتَ الكلامُ الكثيرُ الكثيرُ
و أنتَ الكلامُ الذي لنْ يقالْ ……)
*التمسّك بالمكان، عشق وانتماء:
التكرار ظاهرة لغوية يجسد سمة أسلوبية هامة يتسم بها النّص الشعري، لرفده ببث إيحائي وجمالي ويظهر على عدّة مستويات في بنية النّص الشعري.
ولذا بقت” المناور ” في نفس السياق مخاطبة المكان من خلال تكرار كلمة الدير.
أوردت “المناور” اسم الدير ومناطقها الميادين، والبوكمال، وترقا –العشارة – الفرات – النهر- الجسر المعلّق-، أو مايدل عليه 21مرة تقريبا في قصيدة: ( أنا و الفرات و َ دير الزور ) ، وعرجت على التفاصيل المكوّنة لديرالزور– الكنيسة – المؤذن- التي ألمحت ولو بشكل خاطف للتعايش السلمي فيها، مايؤكد انتماء الإنسان الحقيقي للمكان الذي يظهر التفاصيل المكونة للشخصية التي ولد وعاش الإنسان فيها، ولم تتناسى في القصيدة ربط المكان بعاصمة الياسمين شامة الدنيا.
وهنا يكمن دور الشاعر في بيان جمالية المكان، وعلاقات مكوناته التى تدل على الارتباط الوثيق به، والدفاع عنه، وبذل الغالي والنفيس من أجله.
أخذت “المناور” القارئ عبر رصدها لجماليات التفاصيل المكانية التي أوردتها في قصيدة”أنا والفرات ودير الزور”، – في كلِّ يومٍ كلُّ نبضي يرحلُ / نَحوَ الفراتِ يضمهُ وَيقبِّلُ -، وهذا يؤكد ماجاء في كتاب الدكتورة هدى عطية الموسوم بـــــ”جماليات المكان في الشعر المعاصر”: (تأخذنا ،إلى مرافئ ما وراء المحسوس من المكان إلى حيث ما هو مكون ذاتي جمالي ذو أبعاد فلسفية عميقة في تداخلها، ففي بيتنا الأول تنمو إنسانيتنا وفيه يتم الكشف عن كامل وجود الإنسان وحقيقته وطبيعته ملتحمة بحقيقة الواقع والعالم من حوله، ومن خلال بيتنا الأول ينمو فينا بناء العالم من حولنا، فالمكان الشعر هو ظلال وجودنا الأولى.)
لم تخرج القصيدة بصدرها وعجزها من البداية للنهاية حاملة الأمكنة عن عباءة القصيدة الكلاسيكية، لكنها أتت بلغة سهلة وبسيطة وواضحة ولم تأخذ القارئ إلى عمق الأمكنة التي أوردتها في القصيدة، ففي – العشارة –”ترقا” تشكّلت بدايات”المناور” الأولى التي يردها الحنين إليها في كل حين، كان من المفترض أن تفصح عن جوانب مهمة في المكان التي أثرت في تكوين شخصيتها:
( في كلِّ يومٍ كلُّ نبضي يرحلُ
نَحوَ الفراتِ يضمهُ وَيقبِّلُ
و الديرُ حيثُ طفولتي كانت بها
كان الفؤادُ على المحبةِ يُصقَلُ
و الديرُ حينَ يقولُ صوتُ مؤذِّنٍ:
اللهُ أكبرُ .. و الشفاهُ تُبسمِلُ
و الديرُ لو قدْ أًنشِدَتْ ترنيمةٌ
بكنيسةٍ تهفو القلوبُ و تَحفَلُ
و الجسرُ .. آهٍ كم تركنا عندَهُ
من ذكرياتٍ كُلَّ حينٍ تُقبِلُ
و (البوكمالُ) عيونُها .. و بها تَرى
و كذا ( المياذينُ ) العزيزةُ تَفعَلُ
و ربوعُ (ترقا ) شامةٌ في خدِّها
تَهَبُ البهاءَ لِوجهِها و تُجَمِّلُ
من ياسمينِ الشامِ أنسُجُ سلةً
بيضاء تسبي الناظرينَ و أغزِلُ
فالمرءُ دوماً نحوَ مَسْقَطِ رأسِهِ
يبقى يَحِنُّ و للتواصلِ يَأمَلُ
و أنا يَظَلُّ برغمِ طولِ بعادِنا
بالروحِ حبُكَ يا فراتُ مُؤصًّلُ )
* صوت تتقاذفه الغربة الداخلية والحنين:
الحنين حالة عاطفية يصنعها الإنسان في أوقات وأماكن محددة، وتتجلى في استعادة لحظات ومشاعر سعيدة من الذاكرة لطرد اللحظات السلبية، فالحنين صوت الذي في فؤاده نزعة ألم، وهنا أخذ الحنين بـــ”مناور” في قصيدة( قلبي أبي)إلى حالة تشي بفقد البوصلة، فقد الأب السند “المدرحي” لها، صوتها بدا موجعا وهي تستعيد ذكرى رحيله، كلما حاولت طرد اللحظات السلبية يردها فقد – الأب – القدوة والموجه والمعين والملهم إلى حالة الحزن:
(لازالَ رغمَ رحيلِهِ … في ناظري
لازالَ حيثُ أنا أروحُ يروحُ
لكنَّ موتَكَ لمْ يكنْ يا والدي
كالموتِ يتبعُهُ أسىً وجروحُ
بلْ إنَّهُ لمَّا أتاكَ تزلزلتْ
روحي إذِ انهارتْ لديَّ صروحُ
لمَّا عيونُكَ أَغمضتْ أحسستُ أنَّ
الشمسَ لا نوراً بها لا روحُ
هلْ ماتَ كلُّ الوردِ بعدَكَ يا أبي
إذْ لمْ أجدْ ورداً لديَّ يفوحُ
والليلُ هلْ قتلَ النّهارَ فلمْ يعدْ
غيرُ الظلامِ بمقلتَيَّ يسوح
يا حسرتي منْ بعدِ وجهِكَ يا أبي
منْ أينَ ليْ وجهٌ كذاكَ صبوحُ .)
* وحدي وهواجس اغتراب الذات:
في قصيدة “وحدي “، تفصح – المناور – على وحدة تضغط على حواسها، لدرجة أنها تتساءل من أنا.
!
وهذا وحده يدل على ضياع مادي وروحي قبل أن يكون مكانياً، وفي النهاية القصيدة، وبعد كل الإنكسارات التي أحدثها نضج المدارك تسعى لأمنية تكاد تكون شبه مستحيلة في زمن التفتت، والمصالح الآنية الضيقة:
(كالفَرَاشِ أطيرُ وحدي لا رفيقَ سوى أنايْ
أعبرُ الدنيا بروحي ثمَّ تتبعُني خطاي
هكذا قدْ كنتُ قَبلاً طفلةً .. لهوي هناي
ثمَّ صارَ العمرُ يمضي نلتُ في صمتٍ صباي
واستمرَّ العمرُ يمضي بعدَها دارتْ رحاي
فجأةً مرّتْ سنيني ضاعَ صبحي في مساي
صارَ يلحقُني رويداً ثمَّ يغلبُني أساي
لمْ أعدْ أدري بنفسي منْ أكونُ وما عساي
صوتُ أمّي لمْ يعدْ _ رَجْعاً يكرّرُ لي نِداي
يا إلهَ العرشِ لطفاً قبلَ موعدِ منتهاي ..
أنْ أعودَ لبدءِ عهدي طفلةً .. هوَ ذا مُناي)
*رؤية غير مكتملة للغلاف:
كما يقال في العامية:” المكتوب يبيّن من عنوانه”، لكن للأسف لم ينطبق هذا القول على الغلاف، لا التصميم ولا دلالاته اللونية حاكت، ولا مست لا من قريب ولا من بعيد العتبة الأولى للديوان الموسومة بـــ:”هكذا غنى والفرات”، إذ لم أجد مايدل على الفرات، الصورة لم تدل على مضمون الديوان الذي تضمّن قصيدة عن الدير ومكوناته الجغرافية، وقصيدة مطولة عن حالة فقد والدها، التي توفقت في الوصف فيها، وأجزم أنها تلامس كل من يقرأها، لأنها ترصد حالة الفقد المتزايدة التي أحدثتها الحرب المجنونة.
تمنيت من وجهة نظر فنية لو تضمن الغلاف ثلاثية من وحي محتوى الديوان، صوت والدها وصداه المتمثل بصوتها، وترقا” كنوع من الوفاء للشخوص والأمكنة.