كيف نشرت جريدة الشعب المقدسية اسمي لأول مرة فيها
وأنا في الصف الأول ثانوي
….
رويتُ في فصول سابقة؛ كيف انتقلتُ للدراسة في مدرسة الحسين بن علي الثانوية في الخليل، وكيف اعتقلت أول مرة من قبل جنود الاحتلال، وكيف تعرفت على جمال أحمد الشويكي الرفاعي ابن صاحب مكتبة الرفاعي في باب الزاوية، والذي كان صيته مشهورًا بعد أن خطب خطبته الشهيرة صبيحة رسوبه في الانتخابات النيابية لمجلس النواب الأردني عام 1966 حين كانت الضفة الغربية تتبع الأردن أداريًا، بل كانت الجزء الغربي من المملكة، ولذا أطلق عليها الضفة الغربية، مقابل الضفة الشرقية شرق نهر الأردن، الأردن الحالية، وكان عدد نواب المجلس أربعين نائبا عشرون من كل ضفة من نهر الأردن، غضب الرفاعي لأن المحافظ أبلغه بعد فرز الصناديق بفوزه، لكنه فوجئ في اليوم التالي باعلان اسم اسماعيل حجازي بدلًا منه، وهنا ثارت ثائرته، ووقف مخاطبًا أهل الخليل تلك الخطبة التي تشبه خطبة قس بن ساعدة، فقال: أكلتهم خيري وانتخبتم غيري شربتم ليموني ولم تنتخبوني لا بارك الله فيكم يا أهل الخليل، ولكنه لم يتطرق لا من قريب ولا من بعيد لتزوير الانتخابات،.
كنت أراه جالسًا لا يتكلم، يلبس العقال والحطة السوداء، ولكن ابنه جمال الذي كان زميلي على نفس المقعد، اتفق معي على مشاركته في توزيع الصحف، على بيوت المشتركين، وصرت انزل الى الخليل مبكرًا، ونبدأ بتوزيع اشتراكات المنازل والمكاتب صباحًا، على أمل أن نرى حسناء تفتح لنا الباب، ولكن لم يحدث ولا مرة أن رأينا امرأة تفتح لنا الباب، او تاخذ منا الصحيفة المطلوبة.
وبعد جميع المترجعات التي لا تباع في المكتبة، يكتفي الرفاعي بقطع النصف الاعلى من الصحيفة، ويرمي الباقي، وصار جمال يعطيني ما أريد من مرتجعات الصحف، والتي كنت أقص منها صفحات التسالي والكلمات المتقاطعة، وصفحات الفن.
وكانت المكتبة مليئة بكتب الغناء العربي، فكنت ألاحظ وجود كتب لأم كلثوم ولوردة ولعبدالحليم ومحمد العزبي ومحمد رشدي، ولكن هذه الكتاب لا تعاد إلى الموزع الرئيسي في القدس.
صرت أقص صفحات الكلمات المتقاطعة في صحيفة القدس والفجر والشعب، وصرت في البيت أتدرب على حلها، وقد اكتشفت أن الكثير منها سهل، بل أكشف بعض الاخطاء في الاعداد، وصرت أتقن حل الكلمات المتقاطعة بسرعة شديدة، وربما أحل العديد منها في نفس اليوم، حتى صار الأمر أكثر سهولة مما كنت أظن، بل صرت أفكر في إعداد كلمات جديدة مثلها.
وبدات التجريب، ومن أول تجربة فكرت في عمل مربع غريب، فرسمت مربعًا من تسعة خانت أفقية ومقابلها تسعة عامودية، وأغلقت المربع الثاني في العامود الثاني، ثم الرابع والسادس والثامن، وهكذا فعلت في السطر الرابع والسادس والثامن، وبذا أغلقت ستة عشر مربعًا لا يلتقي أحدهما بالمربع الآخر، بل بين كل مربع مغلق وآخر، مربع فارغ، وتلقائيًا صارت الكلمات الأفقية في خمسة أسطر، ومثلها العامودية، فالسطر الثاني الأفقي أو العامودي لا يحتاج أسئلة، فهو ينقطع بعد كل مربع، وهناك حرف واحد، لا يقتضي السؤال، واكتفيت بوضع خمسة أسئلة لكل سطر، ومثلها عاموديًا، وأغلقت المربع.
كانت الفكرة جديدة، وكان يمكن أن املأها بما أريد من أسئلة وأسماء، لكني جعلتها سهلة الحل، اخترت السطر الأفقي الأول المشكل من تسعة مربعات، اسم مطرب مصري، عبدالحليم مثلًا، وذلك جائز، ولو قلت عبدالوهاب أيضًا، لكن ممكنًا، ولكن سيعتمد ذلك على الأسئلة العامودية، ولن يحل اللغز إلا في السطر السابع العامودي، فإذا كان عبدالوهاب، فسيكون أول حرف عامودي في المربع السابع حرف الهاء، ولو كان عبدالحليم سيكون حرف اللام، ومن السهل أن أقول اسم دولة عربية تبدأ بحرف اللام، وسيكون الجواب إما ليبيا أو لبنان، وهذا يعني أن اسم عبدالحليم هو المطرب المقصود، ولو اخترت عبدالوهاب لقلت مثلا اسم مدينة يابانية دمرتها أمريكا بالسلاح النووي، فتكون هيروشيما+ حرفان وليكن معنى حب فيكون المطلوب ود، أو أي كلمة من حرفين، ممكن حرف جر، أو حرف نفي، أو معنى كلا، أو عكس نعم وهكذا..
وهذا يعنى أن نختار أول كلمة عمودية تبدأ بحرف العين، فما هي الكلمات التي يمكن ان تكون من تسعة احرف ولها معنى، عين جالوت، ثمانية، نبدأ بعمر، عمر بن الخطاب، طويلة الاسم، عثمان بن عفان عشرة أحرف، عمر الشريف ممثل مصري يبدأ بالعين ويتكون من تسعة أحرف ع عمر ..عمر الشريف..تسعة أحرف.. فاكتب ممثل مصري. وهكذا في كل سطر حتى تتناسق الكلمات.
رسمت المربع الأول فارغًا، وتحته الأسئلة، وكتبت على الورقة الثانية حل الكلمات المتقاطعة، رتبت الورقتين، ووضعتهما في مغلف، ونقلت صندوق بريد الجريدة، عن شبرة الجردية نفسها، وأرسلتها سرًا في البريد، وانتظرت عدة أيام، وأنا أقول إن نشروها سيعرف الجميع، وإن لم ينشروها ولم تعجبهم، لن أخبر أحدًا، لكني سأعد غيرها، وبطريقة جديدة.
كل يوم كنت أفتح الجريدة، وأنتظر، حتى جاء اليوم المأمول، وجدت جريدة الشعب المقدسية، ذات الحبر الذي أحبه، وابن الشعب الذي أحب مقالاته على الصفحة الأولى، والتي ينهيها بحكاية وعبرة طريفة، قد نشرت اسمي على الكلمات التي أرسلتها، مع صورة المربع المكثف والأسئلة، وفوقه إعداد الطالب موسى محمد الحوامدة- مدرسة الحسين بن علي الثانوية -الخليل.
طرت من الفرح، وأخبرت جمالًا، وعرضت الصحيفة على عدد من زملائي الطلاب، وعرف بعض المعلمين، وصار البعض يتقرب مني، محاولًا تعلم طريقة إعداد هذه الكلمات المتقاطعة.
وبعدها صرت أعد كلمات غيرها وأرسلها، واتفنن اكثر فيها، فأذكر أسماء رؤساء ودول وحروب وضخصيات تاريخية..وتقوم الشعب بنشرها. حتى أصبح الامر عاديًا وغير مفاجئ فتوقفت عن أعدادها، وبدأت أحل الألغاز والمسابقات، وصرت أنتبه أكثر للمقالات والأخبار.
رويت سابقًا كيف انخرطت في المظاهرات، في مدينة الخليل، وكيف اعتقلت أول مرة فيها، وحجم الغرامة التي حكموني بها، ولكن ذلك لم يمنعني من المشاركة في المظاهرات، بل كنت أحرض الطلاب على ذلك، وخاصة حين كنت أسمع أن هناك مظاهراتٍ في جنين أو نابلس أو القدس، ولكن استجابة طلاب الخليل كانت أقل. وهذا ما كان يزعجني، حتى صرت أذهب أيامًا إلى القدس، للمشاركة في أي مظاهرات في باب العامود، وأعود دون أن أخبر أحدًا عن الأمر. وكدت مرة اعتقل، لولا أني هربت من بين يد الجندي الذي أمسك بي في اللحظة المناسبة، ورغم صراخه بأنه سيطلق النار علي، لكني هربت جهة شارع صلاح الدين، بعد أن احتفظ بقميصي بين يديه.
مرت السنة الدراسية الأولى، وفي نهاية السنة كان معدلي عاليًا وجاء ترتيبي في القسم العلمي، وهذا يعني أنني سأبقى في نفس المدرسة، لكني رفضت الذهاب إلى الفرع العلمي، وطلبني المدير، أبو الصادق وحاول اقناعي أن أظل في الفرع العلمي، وهو يقول: (يا ابني علاماتك جيدة في الرياضيات والفيزياء والكيمياء وكافة العلوم والمواد وحتى اللغة الانجليزية، بل ممتازة وتؤهلك للقسم العلمي بجدارة، بينما يتوسط كثير من أهالي الطلبة الضعاف لنقلهم إلى الفرع العلمي، لكي يصبحوا أطباء ومهندسين وأنت ترفض).
لكني صممت على طلبي الانتقال إلى القسم الأدبي، وقلت إني أحب اللغة العربية، حاول كثيرًا وعدد من المعلمين إقناعي لكني رفضت، فوافق على مضض، وانتقلت في الصف الثاني الثانوي إلى المدرسة الابراهيمية.
كان مدير مدرستنا الجديد طالب أبو شرار وهو ابن عم ماجد أبو شرار القاص الفلسطيني المشهور، عضو اللجنة التنفيذية لحركة فتح، ومن يسار الحركة، والذي اغتيل في روما، فتح مديرنا الجدي والوطني عيوني على وجود كتب شعر وقصص فلسطينية، وكان يحثنا على قراءتها، وكان يلح علينا يوميًا في الطابور الصباحي على الذهاب الى الصلاة في الحرم الابراهيمي حتى لو كنا لا نصلي فالذهاب للحرم فعل وطني، وليس دينيا فقط. واليهود يسعون لتقسيمه، ومنم الواجب أن نثبت وجودنا فيه، وبكثرة، وكان لا يفصلنا عن الحرم سوى بضعة أمتار، كانت مدرستنا بجانب بركة السلطان، ومدخلها أقرب للحرم الابراهيمي قبل تقسيمه من قبل الاحتلال، وقبل مصادرة المنطقة كاملة فيما بعد من قبل قوات الجيش الصهيوني، بما في ذلك المدرسة والحسبة وحتى كراجات الباصات والمقبرة ومنطقة جامع القزازين وكافة محلات بيع الدجاج والعطارة والحبوب.
وكنت أحرض الطلاب على المشاركة في المظاهرات، وقد بدأنا نرى الجنود الصهاينة يعتلون الأماكن العالية، فوق الحسبة، ويحاولون ترهيب الناس، كنت أتحدث مع زملائي في المدرسة على ضرورة اشعال الخليل بالمظاهرات، وكان البعض يستجيب، وكنا ننطلق في مظاهرات تبدأ من موقف الباصات، أو من المدرسة بعد خروجنا منخها، وما هي إلا لحظات حتى ياتي الجيش الاسرائيلي بسرعة لمطاردتنا، ونهرب باتجاه خزق الفار، ومرة جاءت سرية من ذوي القبعات الزرق والذين يقفزون من الجيبات وهي مسرعة ويلاحقون الطلاب، رشقتهم بالحجارة ثم هربت مسرعا من الكراج باتجاه سوق “خزق الفار” المغطى، كي لا يمسكوا بي، وفوجئت أن أمامي عامود، يوضع لمنع العربات من الدخول كان العامود يزيد على المتر، وأخذت قرارًا فوريا دون تردد بالقفز عنه، وكان لي ما أردت، ونجوت، ولو أني اصطدمت به لتكسرت، أو لخصاني، وسقطت جريحًا، ولتم اعتقالي.
في ذلك اليوم كنا قد أشعلنا اطارات السيارات وملأ الدخان أرض الكراج، ولما حاصرت القوات الاسرائيلية الكراج والمنطقة، كنا قد تلاشينا داخل الازرقة والحواري، لكنهم طلبوا من الركاب والطلاب الجالسين في الباصات والذي لم يتدخلوا في المظاهرات النزول وتنظيف الشارع ومنهم من نال نصيبه من الضرب المبرح، وكان أحد الطلاب الذي يكبرني بعامين ملتصقًا بالباص بانتظار الفتاة الجميلة التي تركب معنا، صباحًا وفي طريق العودة، ويبدو كان يحبها أو يريد إعطاءها رسالة، ولكن أمسك به الجنود، وطلبوا منه تنظيف الكاوتشوك المحترق، ولما اعترض، ضربوه ضربا مبرحا وأجبروه وعددًا من الركاب، على إطفاء العجلات المشتعلة، وتنظيف الشارع منها، ولكنه هرب من جهة المقبرة صاعدًا طريق عيادة الكارنتينا، وكان بعض الجنود يطاردونه، ولكنه خبط على أحد البيوت ففتحوا له، وخبأوه رغم أن الكثير من أهل المدينة كانوا لا يفتحون لنا الأبواب ونحن نركض مطاردين من قبل الجيش، لكن كان حظه جميلا على الأقل، أن وجد عائلة تحميه وتأويه، وظل لديهم عدة أيام حتى شفي من الرضوض والجروح.
خلال الثاني الثانوي اتفقت مع الويسكي الصغير على تحميل شاحنته الضخمة بالدبش، وقال: هات معك عددا من الأولاد، وسوف أنتظركم على مثلث أبو ثور وأجربكم، إن نجحتم سوف اوكلك في الامر، رويت ذلك من قبل، وصرت أملأ مع طلاب اختارهم كل مرة، شاحنة الويسكي عبدالرحيم، أو شقيقه الأكبر الجدي والصامت دائمًا، وكان عبدالرحيم أكثر مرحًا وحيوية، وكثيرًا ما كان يعرض علي مرافقته، لإرسال النقلة إلى القدس، أو مدن فلسطينية أخرى، وكنت ألبي طلبه حين أجد الوقت مناسبًا، وخاصة أيام الخميس.
المهم ان أجرة تحميل الشاحنة، كانت أفضل من أجرة عمل ثلاثة أيام، وصرت أملك المال، وأعطي شقيقتي وأمي، وأقوم بشراء ما يلزمني من البقالة القريبة لنا، وليس من عند أبي، ويبدو أن أبي لم يكن مرتاحًا لعملي واستغنائي عنه وعن بقالته، وعن مصروفه نهائيًا، وكان يلاحظ ويراقب ويعرف علاقتي، مع الشبان الأكبر مني سنًا، والذين كانوا يعملون في أحد التنظيمات، كان ذكيا جدا وكان يحس وكان الرفاق والأخوة يكلفونني بمهام معينة في نقل تعليمات ومنشورات ورسائل، او إحضار كتيبات ومنشورات من قرى ومدن ثانية، ومرة حملت سلة عنب، وأوصلتها إلى منزل رفيق لهم في نوباخارس، وكنت أعرف أن هناك مسدسَا تحت العنب، وقد كنت جاهزًا ومستعدًا للتصرف أو الإجابة، فيما لو قبض علي، السلة ليست لي، ولذا كان علي أن أضعها في مكان بعيد عني في الباص، وألا أظل ممسكًا بها، وفيما لو تم إلقاء القبض علي، وهي بيدي، فعلي أن اتخلص منها، وفي أسوأ الحالات وحتى لو قبضوا عي وهي في يدي، علي أن أنكر معرفتي بما في داخلها، وممن أخذتها، ولمن سأوصلها، ولكن كنت أقوم بذلك بهدوء، وبأعصاب ثابتة، ولم أتعرض ولا مرة لأي تفتيش. وحتى لو مررت من أمام بعض الجنود كنت أحافظ على رباطة جأشي وهدوء أعصابي، ولا أجعلهم يشكون بي، وفي كثير من المرات، بعد إيصال السلة، يأتي المستلم، الذي لا يسألني عن اسمي ولا أسأله عن اسمه، ويقول لي لدينا عنب كثير، أخذنا أغراضنا، بإمكانك أن تأخذ العنب معك، ويضيف لي رغيف خبز او رغيفين مؤونة الطريق، وكنت أحمل السلة عائدًا، وفي طريق عودتي للدار، أميل على دار عمتي خضرة وأعطيها العنب، كي أتفادى أسئلة أبي وملاحظاته وشكوكه.
…. وكان الرفاق يطلبون مني الذهاب إلى القدس ويطلبون مني شراء كتب محددة، وصحيفة الاتحاد، من شارع صلاح الدين، خاصة وأن هذه الكتب ممنوعة في الضفة الغربية لأنها تحت الحكم العسكري، بينما في القدس وبعد أن ضمتها اسرائيل، فهي توزع بشكل عادي باعتبارها جزءا من اسرائيل وينطبق عليها ما ينطبق على بقية مناطق ال48. بعد أن أجبر أهلها على حمل الهوية الاسرائيلية وجواز السفر الاسرائيلي، لكن الحكومة الأردنية قالت أنها لن تسحب منهم جوازات السفر الأردنية فهم مواطنون أردنيون.