أخيرا….
وبعد إمضائها نُشرت أهم بنود مذكرة التفاهم حول… ” الشراكة الاستراتيجية الشاملة” بين:
السلط التونسية، وبين “الاتحاد الأوروبي” ،
كما أمكن للجميع أثناء الندوة الصحفية التي أعقبت ذلك الإمضاء، الاستماع إلى كلمات قيس سعيد الرئيس المنتخب التونسي ، ورئيسة مفوضية الاتحاد الأوروبي ورئيسة الوزراء الإيطالية ورئيس الحكومة الهولندية؛
وما يمكن قوله بعجالة وفي انطباع أولى هو ما يلي :
لقد كان الرئيس المنتخب التونسي واضحا تمام الوضوح حول تأكيده على شعار ” السيادة الوطنية” ، وهذا يحسب له في باب النوايا…
ولكن ” الاتحاد الأوروبي” ومن خلال كلمة رئيسة المفوضية الاوروبية بالخصوص كان واضحا هو الآخر في تفصيل غاياته من وراء ” مذكرة التفاهم”،
ولقد اتضح أن موضوع… “الهجرة غير الإنسانية” … كما أسماها قيس سعيد – وهي فعلا كذلك – لم يكن غير مجرد مدخل لمحاولة ربط تونس… “استراتيجيا”… بقاطرة الاتحاد الأوروبي في ميادين متعددة أخرى أهمها :
– ميدان الطاقات المتجددة والنظيفة، وفي هذا لمن فاته فهم ذلك إشارة بالخصوص إلى ما تزخر به تونس من إمكانيات نظرا لوجودها في حيز جغرافي تشرق عليه الشمس باستمرار وبه صحراء يمكن استغلال الطاقة الشمسية التي فيها… وفي هذا حديث يطول بحب الخوض فيه بروح وطنية من طرف…. الأخصائيين… لأن هذه الطاقة الشمسية يراد لها شيئا فشيئا تعويض النفط والغاز… المهددان بالنضوب يوما ما…
-ميدان الطاقة عموما… وفي المشروع نية واضحة لمد ّ شبكة من الأنابيب تربط تونس بدول الاتحاد الأوروبي…فهل ستكون الاتفاقيات عادلة هذه المرة حول الموضوع …. ؟ وقد شهدنا إشكاليات أنبوب الغاز الذي يمر عبر ماجل بلعباس بالڨصرين.. نقلا للغاز الجزائري نحو إيطاليا…. ؟
– ميدان النفايات، وهو موضوع لا يستحق إلى نقاش طويل لأن تونس سبق أن أُريد لها أثناء العشرية السوداء أن تكون مصبّا للنفايات الإيطالية… وهو ما خلق إشكالا كبيرا بين البلدين…
– ميدان العالم الزراعي، وفي البال هنا، وخاصة عندما كان يوسف الشاهد رئيسا لإحدى حكومات العشرية السوداء رغبة أوروبا في فرض اتفاق في هذا الميدان اشتهر تحت اسم “الآليكا” وهي الحروف الأولى باسمها الفرنجي لاتفاقية الشراكة الحرة والمعمقة في الميدان الزراعي والتي عارضتها وأسقطتها النخب الوطنية آنذاك ،
– ميدان… الكفاءات… وفي البال هنا أيضا هجرة الأدمغة التونسية من علماء ومهندسي إعلامية وأطباء و كفاءات في ميدان التمريض والتبنيج والتحليل الطبي وخاصة إلى فرنسا وألمانيا…ما يغني أوروبا… ويتركنا في الحاجة إلى من كوّناهم ليكونوا مبدئيا في خدمة الأوطان قبل كل شيء…
– وأخيرا… ميدان هجرة التونسيين والأفارقة السود ( وقد كان هذا الميدان هو أساس اللقاء بين قيس سعيد وجورجيا ميلوني، ولكنه سرعان ما نتجت عنه حركة دبلوماسية مكثفة حولته إلى نقطة من نقاط التفاهم الشامل فقط) … وقد سجل الطرف الأوروبي هنا رغبة السلط التونسية في عدم جعل تونس مقر توطين للمهاجرين من جنوب الصحراء الإفريقية ، ورفضها لأن تكون حارسة لغير حدودها…
ولا بد من الإشارة عند الختام إلى أنه صاحبت إمضاء هذه المفكرة وعود أوروبية ببذل مبالغ مالية لتونس تبدو جزيلة بغاية تمكينها من تجاوز وضعها المالي كثير الصعوبة الناجم بالخصوص عن استنزافها من طرف من سيّروا شأنها العام من 2011 إلى 2021 ،
هذا هو بإيجاز وبموضوعية ولكن بوضوح أيضا أهم ما يجب معرفته حول مذكرة التفاهم….
فما يجب قوله بعد ذلك هو ما يلي :
إن المذكرة – وقد أُبرمت – تشكل وكما أصبح واضحا إطارا عاما فقط وستعقبها مفاوضات تفصيلية حول بنودها…. ما يوجب على السلط التونسية وعلى المفاوضين باسمها أن يكونوا في كل الأمور الدقيقة وفي مختلف الصياغات القانونية في مستوى موجبات السيادة الوطنية المرفوعة كشعار عام من قبلها…
وهنا يجب أن يكون مفهوما أن ” الاتحاد الأوروبي” ليس فاعل خير أو محسنا من المحسنين un mécène… بل هو اتحاد جامع للقوى الأوروبية التي كانت ولازالت في أغلبها قوى امبريالية ونذكر من ضمنها فقط إيطاليا وهولندا وألمانيا وفرنسا وبلجيكا…. والتاريخ شاهد على ذلك… ولعل آخر ما يتعين التذكير به هنا – وما بالعهد من قِدم – هو التدخل الفرنسي المسلح في ليبيا عند إزاحة واغتيال معمر القذافي…
وهكذا فإن أوروبا ستكون مفاوضا شرسا من أجل ضمان مصالحها وخاصة في عالم يهددها بضياع هيمنتها مع بروز قطب دول البريكس بقيادة الصين وروسيا مع مصاحبة إيران لهذين القوتين العظميين… فمن الواضح أنها ( أي أوروبا) ستعمل على منع تونس من ” التوجه شرقا” على غرار ما أعلنت عنه جارتها الجزائرية الكبيرة ،
وتملك الدول الأوروبية في هذا الصدد أطرا وتصورات قانونية جاهزة، وهو ما وقعت الإشارة إليه بوضوح تام ببنود مذكرة التفاهم،
أما عن المبالغ المالية التي تلوّح بها أوروبا المتحدة لتونس في وضعها الاقتصادي المتأزّم فإنه علي الإنسان أن لا ينسى أن رئيسة المفوضية الأوروبية كانت قد ربطتها عند زيارتها الأولى لتونس بضرورة استجابة تونس لشروط صندوق النقد الدولي، وهي وكما هو معروف شروط ظالمة…وبدون نقاش،
فكيف ستتطور الأمور بين الطرفين في المستقبل…؟
نظن أننا حاولنا رسم إطار عام يسهّل التفكير بموضوعية وبروح وطنية حقيقية في الموضوع.
فذلك ما نرجوه.