ملحمة جنين الكبرى
اختصارات لولادة النص(…) ر
من جديد
جِنين” الجَنين المُقاتل” وعاصمة الصمود، على ما يبدو لي أن إسرائيل لم تَعي الدرس جيداً؛ فحينما يتصدى لهم أيقونة المقاومة ليشتبك معم الطبيب عبدالله أبو التين وحيد أهله، الذي كان يخلع رداء الحكمة ويرتدي اللثام والكفن الأبيض، يخرج في الليل بعد الانتهاء من تطبيب الجراح كي يداوي جراح وطن لا تستطيع خيوط الطب أن تُلئم اتساع جراحه، استشهد متأثراً بجراحه في14/10/2022 كان عليهم يضعوا أيديهم على حقيقة واضحة كالشمس، بأن من يقاتلهم عَلية قومنا وصفوته لا أراذِل القوم أمثالهم، فمن يترك مغريات الدنيا ليختار المقاومة، فان هذا خياراً قبل أن يكون قدراً، وكان يجب فهم أولئك الصنف من البشر الذي يتمتع بطباع صناعة المعارك والتكيف معها والتخلي عن كل مظاهر الهوان وأشكال الحياة ،صنف غير قابل للتنازل ولا يمكن شراء ذمته، فمجرد التحرش في ثوب جنين فان التكلفة تكون وبال على العادي، مجدداً جنين كابوس الاحتلال عصيُّ على الازالة من الذاكرة ومن السجل العسكري ومن الوجود؛ جنين2002تعود الي الرعب تتصدر المشهد تخرج من أصقاع الأرض يتكلم جدرانها وشواهد قبورها، هي المستحيل في زمن الممكن هي المخرز في كف إسرائيل؛ يثأر أشبالها يكبُر سوادُها يشتدُ عِراكها يثور بركانها؛ يجادل رجالها الموت ويجند لون الجنود عن مسافة صفر؛ يضربون بيد السماء يُقلعُونَ كأجنحة الصقور يُسقطون الهيكل يضربون بعرض الحائط كل هنجعية وهمجية الاستكبار يرجمون اسرائيل بإبليس؛ ويمسحون الأرض بهيبة جيشهم المستعار؛ يَكنُسون الزيف بمجدٍ تليد ويصنعون نصراً اسطورياً؛ يخمدون أنفاسَ الذُلِ ويرفعون صوت البنادق والاذان… يقرعون جماجم الأحياء فيهم وينبشون الخوف في قلوبهم، هم رجال رضعوا حليب العزِ وفُطموا على الحروبِ والانتصارات؛ يحترفون القتال ويصنعون قلادة النصر في مساحة كيلو ونص الكيلو!! يصهلون كالجِياد يمارسون المقاومة بعبقرية جيوش، يتركون الأثر على ظل الشمس ويقارعون أعتا جيوش المنطقة فساداً وبلطجةً واستكباراً يكتبون الشرف بالموت وينسجون وشاح العز بالدمِ؛ هم الذين قال عنهم الله رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه…
هؤلاء صنيعة الله اشباه خالد وعلي؛ وان كان من حق لهم فالحق للتاريخ يباهي بهم الكون، يُحدث عنهم الأرض يروي شموخهم ويواري سوءة المخنثين، الذين رفعوا راية الاستسلام؛ ورضوا بالسقوط وفيهم دياسة الخنزير، لكن ثلة من جنين قلبوا موازين العدو وغيروا معادلات قوة عسكرية واهمة، وكانوا قانون لا يمكن التطاول عليه، اليوم أنا مولعٌ بهم وبفعلهم وبجلدِهم وجبروتهم وبراءتهم وثباتهم، هم أبناء الزيتون المبارك والتين المقهور والبساتين المسروقة، هم دماثة القدس وملاطها ونورها الساطع هم قداسة الدم ورباطة الجأش؛ لا يوجد عاقل على هذه الأرض يؤمن بالحق، وينبذُ الظلم الا وأدهشتهُ صنائع عقولهم وأبهرت وجدانهم وحركت فؤادهم، وأعادوا في نفوسهم الأمل وصدورهم الطمأنينة. ونشرت بينهم كيف؟ يكون الرد في زمن الهوان والتطبيع.
عُش الدبابير مصطلح أطلق ليواكب مقياس الرجولة والتمتع بالتضحية او العيش سواء في أكثر مناطق سطح الأرض ازدحاماً بالموت والثأر بحجمها القياسي المتناهي في الصغر وفعلها الكبير في الردع وكسر إرادة المحتل وهزم دولة النازيين الجدد وافشال مخطط استخباراتي للشاباك ودولة إسرائيل.
نعم هكذا هي جنين أُنثى الموت عودتنا أن تبقى وبالاً على إسرائيل وجنوده وغطرستهُ تعلو فوق اكتافها، تلعقُ ملحُ جِراحِهَا وتستمر في القتال دون ان تلتفت لإغراءات الغنائم ولا جنيُ الحصاد،،، تطأ أقدامها غبار الأسفلت تُقحم رأسها في فَمِ الموت لتنتزع أظافر الموت تقلع وجعها وتداوي مُصابها وتعزي نفسها بالبقاء وتُسكن روحها المرهفة بالفخر المرهقة من هرطقة السياسة التي لا تبالي بها… انه مخيم الجحيم الوحيد الذي ابتكر هندسة المقاومة ومعمارية التحدي وحفظَ قواعد الاشتباك عن ظهر قلب وأرهق جهاز الشاباك الإسرائيلي وأشغل منظومته الأمنية بالفشل وشوش خط سيرهم نحو هدف استعراض القوة والعر نطة وكان إضافة في قاموس النوابغ، حتى أدرك العالم كله القاسي والداني منه، أن جنين استثناء عن الجنس البشري الي ملائكة ابطال مدججين بسلاح ايمان لا يتزعزع عن أرضه، يحملون عقيدة لا يمكن ان تتراجع او تنهزم لأي سبب كان.
الغريب في الامر انهم يرممون ركنهم الشديد للمقاومة كما يرمموا بيوتهم، هم رحم لولادة أبطال ونماذج خالدة أمثال أبو رعد وطوالبة وأبو جندل وأبو الهيجا وثابت المرداوي، محرم عليهم الاستسلام، فإسرائيل بجبروتها تخشى لقياهم فهم يحاولون الحاق الأذى والدمار لكسب صورة نصر مزيف انهم يعلمون ان المعركة مع جنين ليس كلمة سهلة، جنين هذا الموقع الذي أجهزَ على أحلام جنود الاحتلال، حتى لا يحاول مرةً أخري بالعبث أو المغامرة داخل مخيم أصبح يعادل قوى عظمى، فيما أثخن جراح عدوه المدجج بأقوى الأسلحة والتكنولوجيا، لا يقر بمصطلح الترقيع ولا التوقيع والتركيع هو أسس لمرحلة جديدة من الصراع الفلسطيني وأزال من القاموس كلمة هزيمة وكسر أنف المحتل، فعاد يجرُ أذيال الهزيمة الذي أراد أن يحقق نصراً وموقفاً سياسياً مزيفاً على ظهر الأبطال، لكنهم أفشلوا له هذا المكسب وأرهقوا الشاباك الإسرائيلي وشتتوا عقله وشوشوا عليه بكل الوسائل، لتبقى جنين جامعة تُدرس البطولة والرجولة والتي تركت صدى هز العالم وبصمة في تاريخ المعارك مع إسرائيل، انتهت بان تجربة الاحتكاك والنيل من صمود جنين سيكون مكلف جداً لقيادة العدو الإسرائيلي وجنوده.
انه مخيم يشتبك من نقطة صفر ليعيد جعبة العدو صفر، يرمم مقاومته كما يرمم بيته، صداه فاق الصوت هو رحم يحبل بأبطال افرزوا حالة ماردة شطبت الهزيمة من التركيب العسكري، وبدا منهم ما يحسب له ألف حساب قبل الدخول في مقامرة قتال هؤلاء الفتية الذين يُقبلون على الشهادة كما يقبلون هم على النوم، جنين اليوم ملاذ الأمان من كل هذا الضياع والخنوع هي لم تفاجئ العالم لأنها تحمل نفس الجينات من أسلافهم الجبارين، الذي كانوا يُصلُون ويطلقون زخات الرصاص على العدو في نفس الوقت، يَصبُون عليهم جهنم إذا ما تحرك لهم ضل دميه، هم بشر غير عاديين، لأن جنين مخزن الكرامة ومكان يختزل القضية وصدق حتمية نصرها مخيم بحجم وطن ورجال بارعين ك انشطين عندما وضعوا قانون للمقاومة أطلقوا عليه اسم الشرف، فوجَبَ عليهم فعل ذلك أمام مجتمع هجين متناقض يريد بناء مستقبل سياسي على سفك الدم الفلسطيني وأكاد أجزم أن هذا المبتغى فشل بلي رجعة عندما أصيب نتنياهو بالخزي في حين صرح انه سيقضي على جنين عن وجه الأرض واصطدم بقانون الشرف الذي وضعه أبطال جنين المليء بشغف الموت والموهوب باحتراف القتال ضد دولة الكيان، في المنطقة ككل امام تحريض إسرائيلي مريض بالصمت وتواطؤ عربي مخجل. لكن هنالك كانت تنتظره نفوس طاهرة تحمل ارواحها على اكفها نخبة النخبة بالمرصاد للطيران والمدرعات والعتاد العسكري الذي يهدم دول بأكملها، انه المقاتل الفلسطيني الصنديد الذي يواجه عنصرية جاءت لردع المنطقة وخمد صوتها واحلال شعب لمم بدلاً عن شعبها الأصلي، هذه هي معايير أمريكيا والإرادة الغربية في إيجاد عصا سحرية في منطقة الشرق الأوسط لتغيير ديمغرافي وايدلوجي واستراتيجي، يمنح إسرائيل العر نطة ونفوذ قهري بالقوة في المنطقة، فكانت جنين نداً له وضد رغبات إسرائيل والشعوب الداعمة لهذا الكيان وقد أدى قصر نظر قادة إسرائيل الراهن باعتقادهم أن الوقت مناسب الآن للخروج من مأزقها الوجودي، عبر استخدام القوة المفرطة بأنواعها، لهزيمة الفلسطينيين لعقود طويلة. والمفاجئ أنه لم يعد بالإمكان هزيمة صناديد السدِ والصَد، أمام فحولة جبانة من جنس لقيط اسمه إسرائيل جسم سرطاني غريب لا يقبله أي مكان في الوجود لذا فان المعركة ليس جنين فحسب انها معركة وجود مع هذا الصنف الذي لا ينهي وجوده سوى الله.
تتكرر إخفاقات الشاباك في تقديرات النتائج وكذلك الأخطاء التي تقع فيها إسرائيل أكبر بكثير من أخطاء فردية للمقاومة فما زال يكنزون فخيالهم خلال سبعة عقود من الصراع ارهابهم بالأمس في جنين بحجة القضاء على المسلحين، وهيهات أن يتحقق ذلك مع فلسطيني يتفنن في امتلاك البندقية ويُحرم التفريط في عقيدة نمت في وجدانه انهم يتعايشون في مكان يرغب الاحتلال لجعل جنين مكان لا يصلح العيش، فيصبح مكانا يرعب زمرة الاحتلال ومارثون من هو صاحب الكلمة الأخيرة انها جنين الام عاصمة الصمود.
وفي معرض ابداء رأي قيادة العدو يقول: أحد الضباط الكبار بالحرف أنه من المستحيل اقتحام جنين مجددا بعد هزيمة 2002في عملية أطلق عليها السور الواقي فان السوابق التاريخية والمشرفة مع هذا المخيم طويلة دون تهويل او تقصير المخيم مُشبع بالفتوة والنخوة والجاهزية للقتال الذي يتنفس أولئك من ضلوعهم. والذين أروهم النجوم في عز الظهيرة هذا هو شعور الحسرة لدى الاحتلال، عندما ظن انه سينهي المقاومة هناك وسيستأصلها بيومين، في ممرات وأزقة أشبه بعروق اليد كانت حبل مشنقة لآمال وطموح جيش كامل فكان الجسد والاسطورة، التي تتنامى ولا تنام في عبثية جدلية ومعمارية هزت عرش إسرائيل فمدخل مخيم جنين: يرفع لافته مكتوب عليها محطة انتظار لحين العودة” جنين يحمل أجنة لها أجنحة تحلق هي ظاهرة الفدائي قديماً وجديداً البطل الفردي، انهم نواة صلبة ليس سهلاً عليهم السقوط أو الانحسار أو الغياب، وجودهم اقوى من طبيعة استهداف الجغرافيا او اغتيال وتصفية بعض الشباب هؤلاء لن ينتهوا كحالة لن تتكرر كثيراً تفوق حالة أسطره مبالغة أو خرافة عندما يقاتلون أشباحاً عصيةً، على الفناء قابلة للتكرار والانتصار والمراوغة والتكييف مع الثورية وممارسة لقمة العيش. وللأسف جنين تواجه خطر الانقسام فقد طرأ تغيير واضح وجذري في بوصلة المصالح ووباء التنظيمات الذي فكك الحاضنة واستغلها في مارب غير شريفة فقد كانت متماسكة في سنة 2002، لكنها باتت الآن مشتتة بعد الانسداد السياسي، والفساد المستشري، وغياب الوحدة الوطنية، والإحباط العام، والضغوط الإسرائيلية على القيادة والمجتمع لإعادة هندسة الجماهير الفلسطينية، وصوغ وعي جديد، وإيجاد “طبقة تدين المقاومة ولا تتقن الا الاستسلام والرفض للمقاومة.
هذا الوضع جعل “أسود منفردة” تأخذ على عاتقها قضية جنين لتبهرنا بأثر عظيم مع غياب مظلة وطنية حقيقية، وشبان يبحثون عن فرصة امتلاك سلاح لتكون اول طلقاته واخرها في وجه الاحتلال فقط، هؤلاء الشباب لم يتلقوا أي نوع من أنواع التدريب العسكري التقليدي او الفدائي فان ساحة تدريبه هي الاشتباك مباشرة والالتحام الذي يخوضوه الابطال منفردين، ولا يجدون في الميدان سوى قلة من فتح والمدد من الأسمر، ان ظهور هذه الفردية دليل واضح بان الجماعة مفككة وان واقع التنظيمات سيء وهذا استفتاء للخروج من عباءة القيود المفروضة على من يرتقبون تسويه سياسية او فرصة الهروب من المأزق بحلول ووعود سياسية إسرائيلية كاذبة فقد جاء رعد على خلاف رغبة الاحتلال عندما تجاوز الاعتبارات السياسية والحزبية وذهب لتنفيذ عملية تعويضاً عن المحرومين من هذا الشرف وتسديد دين عن عبيد الكراسي والمناصب المقيدين بأجندات خارجية وارتباطات إقليمية ودولية، ونسوا ان ياسر عرفات اطلق على جنين اسم مستعار جنين غراد تيمناً بالحرب السوفيتية وما حصل فيها. ووصف البطولات الفردية بـ “تعويض أو تسديد دَين” عن أصحاب الكراسي والملتزمين بالقيود التي فرضتها عليهم جهات إقليمية ودولية مما يبين أن المقاتل المنفرد، أكبر من قيادته التي فرقتها السلطة او مفهوم السلطة على أي شاكلة كانت، وليس ببعيد زبانية النخبة السياسية التي أرهقت هذا المسلح حين انشغلت بثروتها فأضعفت منظومة الكفاح المسلح وثقافة المقاومة وبقت النفوس المكلومة بلا معونة أو موقف جمعي، بعد اللهو الحاصل في مصير شعب نجح الاحتلال في قسمه نصفين وشرخ الوطن جرحاً وعزاءً لقد اعجزوهم عن نقل رواية او كتابة رواية موحدة او رواية بطولة، جنين لا تموت ولا تنهزم.. جنين ولادة النص(…) ر من عباءة الهزائم.
أيمن لافي
قيادي في حركة الجهاد الإسلامي
كاتب وباحث أكاديمي
25/7/2023