نعمه العبادي
يطلق علماء المنطق مصطلح (الحد) على التعريف، ويقسمونه الى الحد التام والحد الناقص، وسبب التسمية، ان التعريف بمثابة السور والسياج الذي يحيط بالمعرف، فيجمع كل اجزائه وما ينتمي له، ويمنع الآخرين (الاغيار) من الدخول في سوره، لذا فإن الحد التام هو الجامع لكل الافراد والمانع من دخول الاغيار، فيما الناقص لا يملك هذه الصفة بشكل دقيق، فقد لا يكون جامعا لكل الافراد، وربما يدخل بعض الاغيار فيه، ومن اشكاله التعريف بالمثال والتعريف الشارح والتعريف ببعض الصفات والتقريبات التي تعطي انطباعا مناسبا يمكننا من التعرف على بعض وجوه الشيء.
تهتم المدونات القانونية بالتعريفات كثيرا، إذ ان النصوص القانونية لا بد ان تكون دقيقة في توصيفها وتحديدها لكل مفردة توردها، ومع ذلك فإن الذي يدقق في النصوص القانونية يجد فيها ثغرات كبيرة في مجال التعريفات وتوصيف المفاهيم، والذي يستغل احيانا للتفلت من العقوبة او للحصول على الحقوق.
في الحياة العامة، تشكل منظومة تعريفاتنا وتصوراتنا عن الاشياء المادية والمعنوية من مداخل مختلفة، وقلما يتفحص الناس هذه المداخل ويبحثون في صحتها ومدى سلامة التعريفات التي يطلقونها على الاشياء، ويكتشف الكثير من الناس من خلال نقاش ما او خلاف على، انهم يتبنون تعريفات خاطئة وفهومات غير دقيقة، كانوا يظنون انها صحيحة وعلمية.
في مجال السياسي، تمثل التعريفات ومداليل المفاهيم لعبة معقدة، ويمكننا الاستدلال بمفاهيم مثل الار-هاب والتطرف والاصولية وغيرهن من القضايا محل الجدل، وتعكس التعريفات عموما المنطلقات الفكرية والقيمية والموقف الايدلوجي والاخلاقي للمعرف، لذا تلعب السياسة لعبتها من خلال الاطلاقات التي تتبناها لتوصيف القضايا والمشاكل وكل الشؤون التي تعبر عنها، عبر استخدام تعريفاتها الخاصة التي تعكس موقفها ومنظورها الايدلوجي.
كثيرة هي الخلافات اللفظية في حياتنا العامة، حيث يدور الجدل حول قضية ما دون ان يحدد كل من المتخاصمين مقصوده الدقيق لما يتحدث عنه، وبعد ان تتاح فرصة ومجال ليستفهم كل منهما عن القصد الذي يهدفه في الموقف، يتضح ان الامر مجرد خلاف لفظي، وان الطرفين متوافقان على اصل الفكرة.
التلاعب بالافكار عن طريق بناء التعريفات الخاطئة هو القضية الاخطر، وتزداد الخطورة عندما يقدم التعريف من خلال القنوات العلمية والمصادر المعرفية، ويتم إلباسه لباس الحياد والموضوعية إلا انه في الحقيقة محمل ومعبئ حد الإمتلاء بحمولات مقصودة ومساعي مطلوبة واجندة مخططة من اجل ان يتبناه العامة (سذاجة)، ويتعاطون معه دون ان يلتفتوا الى خطورته، وكثير منا شهد الجدل الذي جرى قبل اشهر ومازال عن مصطلح الجندر ودلالته الغامضة التي تستبطن في اعماقها الكثير من المفاهيم الملتبسة القابلة للاستغلال بحسب مقاصد كل جهة.
يتصور الكثير من الناس بداهة عدد كبير من المفاهيم والقضايا، وانها واضحة لديه، لكنه عندما يواجهها سواء من خلال التفكير بها في اعماقه او في نقاش ما مع آخر، انها في الحقيقة اشكالية وليست بالوضوح الذي يتخيلها، بل يعجز عن اعطاء تعريف مناسب لها.
في بعض المجالات، لا يمكن قبول التعريفات النسبية او المقاربات، بل تحتاج الى صرامة واضحة، ففي الادبيات العسكرية، يقتضي مفهوم العدو توصيفا واضحا، كما ان انطباق هذا المفهوم وكذلك مفهوم الصديق، ينبغي ان يكون متطابقا بما لا شك فيه، فنحن هنا نتحدث عن لغة الرصاص التي لا تقبل التأويل، لذلك لا ينبغي ان تكون هناك منطقة رمادية في هذا المجال، وهو ما يتطلب عقيدة عسكرية دقيقة وواضحة مرتكزة على تشخيص واضح ومحدد لمفهومي العدو والصديق.
في ظل كثرة المنتج الذي لا تحكمه شروط المعرفة ودقتها، نحو ازاء محنة عظيمة وحقيقية فيما يتعلق بهذا الكم الهائل من التعريفات التي هي في الحقيقة مغالطات واشتباهات واجندات مغرضة وبروباغاندا منظمة اكثر من كونها تعريفات، ويسري هذا التحدي الى كل مناحي حياتنا حتى في جوانبها العاطفية، حيث يتم توصيف المشاعر والعواطف وما يتصل بها من مواقف بتعريفات وفهومات مختلة وغير صحيحة.
لا بد من مراجعة الكثير من المعارك، والتدقيق فيها، لان معظمها مجرد صراعات لفظية لا اكثر، وحالما، يتم الاستضياح في جو من التعقل يظهر للطرفين انهما يتصارعان على الالفاظ وهما متفقان على المعنى.
ان استمرار هيمنة المنتج الشعبي (غير المستند الى اي اصول معتبرة او قواعد محكمة، بل هو مجرد ظاهرة صوتية) على كل حقول الحياة بما في ذلك القضايا التخصصية لجهة تراجع التحكيم المعرفي والدقة العلمية واخذ الامور من اصولها الصحيحة، يصوغ مشهد حياتنا بطريقة هشة ومتخلخلة ومصابة بالكثير من التشويه والانحراف، وينبؤ عن خطاب متداول يكرس فلسفة فوضوية تلقي بظلالها على كل شيء.
#نعمه_العبادي