د. جبَّار ماجد البهادلي / ناقدٌ وكاتب عراقي
مهاد تقديمي:
لا شكَّ أنَّ قصيدة النثر الشعرية هي إحدى محاولات تطوِّر الشعر العربي الحديث الذي بدأت تحوِّلاته التَّغيُّريَّة السريعة في منتصف خمسينيات القرن العشرين. وهذا التَّحوِّل يعني أنَّ تاريخ الأدب الشعري العربي الحديث عامةً والأدب العراقي خاصةً قائم على عناصر التخليق والابتكار والإضافات الإبداعية وعلى محاولات التجريب التعبيري والتجريد الفنِّي, وأنَّ كلَّ محاولةٍ شعريةٍ جديدةٍ وجادَّةٍ في الأدب العربي يمكن لنا أنْ نسمِّيها(تجريباً وتجريدَاً)؛ كونها تحمل في مظان حراكها الفنِّي الإبداعي كلَّ معاني وروح الابتكار والتخليق الإبداعي والتجديد الفنِّي الشعري.
وفي الأعمِّ الأغلب يمكن أنْ توصف كلُّ هذه المحاولات التجديدية والمغامرات الشعرية الفنيَّة بأنَّها( تجريبٌ وتجريدٌ). وفي ضوء ذلك التغيير ظهر لنا في طريق الحداثة الشعرية اتِّجاهان أو مساران جديدان في الشعرية العربية الحداثوية هما: مسار التعبير التَّجريبي, ومسار التجريد الشعري الفنَّي. وما بين هاتين الاتجاهين المهمَّين تتمايز محاولات شعراء الحداثة الإبداعية صعوداً وهبوطاً, وقربَاً وبُعداً من ضفاف نهريهما الجديدين على الساحة العربية الأدبيَّة الحداثوية.
وإذا ما أردنا أنْ نفهم مفهوم التجريب التعبيري, فإنَّ التجريب يُعدُّ محاولةً فكرية وفنيَّةً وجماليَّةً وروحيةً وعقليةً واثبةً الحراك من أجل تلبيةِ حاجاتِ العصر ومتطلباته الفكرية الجديدة؛ كونه يرتبط ارتباطاً وثيقاً بحركة التيارات العقلية والمذاهب الفلسفية والتصوِّرات الفكرية التي تميِّز روح العصر عن غيره. والتجريب كمحاولة تغيير إبداعية لا يقتصر على الشعر الحديث أو القديم في التجديدية الأولى, بل يمتد حبله المتين إلى جميع أجناس وفنون الأدب الإبداعية الأخرى. كونه يشتغل فنيَّاً على قضيتي(الشكل والمضمون), أي اللًّفظ والمعنى؛ لذلك يعدُّ التجريب المرجع الأساسي المهمَّ الذي يكسر عتبة سياق المنظور الاعتباري, ويفتح أنساقاً لآفاقٍ جديدةٍ أخرى أمام حركة التجديد الشعري خاصةً والتطوّر الأدبي والفنِّي بشكل عامٍ. ذلك لأنَّ تقنية التجريب تصدر عن وعي وحبٍّ ورغبةٍ حقيقيةٍ صادقةٍ في النظر إلى لأشياء الفكرية من ركن جماليٍ جديدٍ.
وعلى وفق ذلك التصوِّر المنظور فإنَّ التجريب الشعري يتصل بعملية الإبداع الفنِّي التخليقي المُبتكر كما مرَّ, وهو يأمر بكسر قواعد مألوف الراهن الشعري بآفاقٍ وتطلعاتٍ جديدةٍ؛ كونه ناتجاً عن تجربةٍ ومخاضِ الشَّاعر الذاتية, ومحاولاته الاختبارية التجديدية في الفضاء الشعري للقصيدة الحديثة. وبالتالي فإنَّ التجريب الشعري, هو انعكاس حركي ناتج عن فعل التجربة الثرِّ التجريبي.
وحين نبحث عن المعنى القاموسي أو المُعجمي اللُّغوي لمفردة(التَّجريبِ), نجدهُ مشتقاً في لفظه من جذر الفعل الماضي الثُّلاثي(جَرَبَ, يُجرِّبُ, تَجريباً وتَجربةً), أي اختباراً. وهو في كلِّ الحالات مصدرٌ للفعل(جرَّبَ) ناتجاً عن القيام بفعل التجربة والاختبار. وهذا التعريف يُحيلُنا إلى أنَّ القصائد التعبيرية التجريبية لا تتضمن في مضمون سياقها اللُّغوي إخفاءً أو إضماراً أو اِستتاراً تقنِّعيَّاً كثيراً يقف وراءه الشاعر, بل هي تشفُّ عن مضمون سياقها البياني الصوري ومؤشراته الدلالية بشكلٍ واضحٍ من خلال عتبة عنوانها, ومن خلال مؤشِّرات أحداثها وشخوصها التي يفهمها المتلقِّي مُباشرةً دونَ عناءٍ أو دونَ كَدٍّ أو تعبٍ أو مجاهدةٍ فكريةٍ كبيرةٍ. وهذا ليس عيباً فيها أو انتقاصاً من قيمتها الفنيَّة الشعرية الجوهرية, أو محاولةً للتقليل من شأنها الفنِّي التعبيري الجديد, بل هو إيضاح وتبيانٌ لفهم كينونتها الميسَّرة لذهن القارئ أو المتلقِّي الواعي النابه.
أمَّا المعنى الاصطلاحي لمفهوم التجريب, فهو ما وضعه أدونيس في تعريفه للتجريب حين قال: هي ((المَحاولةُ الدَّائمةُ لِلخروجِ مِنَ طُرقِ التَّعبيرِ المُستقرَّةِ, أوْ الَّتِي أصبحتْ قَوالبَ وَأنماطاً وَابتكارَ طُرقٍ جَديدةٍ, وَتَعني هَذهِ المُحاولةُ إِعطاءَ الوَاقعِ طَابعاً إِبداعيَّاً حَركيَّاً. هِي َإذاً عَملٌ مُستمِرٌّ لِتجاوزِ مَا اِستقرَّ وَجَمُدَ. هِيَ تَجسيدٌ لِإرادةِ التَّعبيرِ, وَرَمزٌ للإِيمانِ بِالإنسانِ, وَقُدرتهِ غَيِر المَحدودةِ عَلَى صُنعِ المُستقبلِ, لَا وِفقاً لِحاجاتهِ وَحسبُ, بَل وِفقَاً لِرغباتهِ أَيضَاً.))(1),أدونيس, ص 355). إذن التجريب هو محاولةٌ جادةٌ وحتميةٌ للخروج من عنق زجاجة المألوف الأدبي الراهن.
ولأهميته يُعدُّ تيارُ التجريب أيضاً,((هُوَ العَملُ عَلَى اِبتكارِ أَشكالٍ جَديدةٍ غَيرِ مَسبوقةٍ؛ وَذَلكَ بِاستخدامِ اللُّغةِ عَلَى نَحوٍ جَديدٍ أَو تَوظيفِ الحَاسَّةِ البَصريةِ فِي تَذوِّقِ النَّصِّ, أَو بِاستخدامِ الرُّسومِ واللَّوحاتِ الَّتي يَتمُّ تَشكيلهَا بِواسطةِ الكَلماتِ, أو لِفتحِ النَّصِّ لِيتحوَّلَ إلى نَوعٍ مِنْ الكِتابةِ تَذوبُ فِيهِ حُدودِ الأَجناسِ الأَدبيَّةِ, وَيَستدعِي نُصوصَاً لَا حَصرَ لَهَا, حَيثُ تُصبحُ الكَملةَ إِشارةً عَائمةً فِي فِضاءٍ بِلَا حدُودٍ.))(2), د. محمَّد صالح الشنطي, ص 978). إذن وفق ذلك التصوِّر أنَّ أساس التجريب التعبيري هو الابتكار التذوِّقي ؛ لذلك هو تجربة ضرورية ومحاولة مهمَّة من أجل تدفق واستمرار الأدب وفق ما يجري من تقدُّم علمي وحضاري مجتمعي آخر.(3),ينظر:حسين جمعة, ص86).
أمَّا الاتِّجاه الآخر من مسارات الأدب الحديث المقابل لاتجاه التجريب الشعري, فهو اتِّجاه الشعر التجريدي الذي ينماز على نظيره الاتجاه الأوَّل بجماليات أسلوبه الفني الانزياحي العالي المغاير. والذي يمثِّل فنيَّاً وتعبيرياً وجمالياً أعلى درجات السمو الفنِّي والإيهام والغموض والتعقيد الرمزي الصوري المعنوي المُبهم الإيجابي الفنِّي الذي يحتاج فيه المتلقي إلى جهدٍ في فكِّ وتحليل شفراته ومرموزاته اللغوية البعيدة والقريبة التي ينحرف بها الشاعر انحرافاً انزياحياً شعرياً كبيراً عن قواعد وأُسس السياق الفنِّي العام في مألوف المشهد الشعري السائد عرفاً تقليدياً .
كون هذا الاتجاه الجديد يُقدِّم صوراً فنيَّةَ إدراكيةً ذهنيةً مُستقلَّةَ الفهمِ والإدراك التلقائي المباشر؛ لذلك يشعر معها القارئ ومتلقي النصِّ أنَّ هذه الصور التكوينية المرموزة التي يُقِدِّمها الشاعر التجريدي إليه كأنَّها خارج مألوفه الذوقي الشعري وفيها من الغرابة والمخالفة لأسس التذوق الشعري الذي لم يطرُقْ أسماع ذوقه من قبل, الأمر الذي يحتاج حينئذٍ إلى وقفةٍ تأمليةٍ فكريةٍ وروحيةٍ تفهمه وتستوعبه استيعاباً صحيحاً. لذلك فإنَّ الصورة الشعرية التي يسوقها الشاعر إليه لم تكن صورةً واضحة المعالم في هندسة وحدتها الموضوعية للواقعة الحدثية, وغير مُكتملةٍ؛ لذلك يشعر المتلقِّي بشعورٍ وصدمةِ من الخيبة والخذلان في فهم معالم شعريتها واستيعابها بصورةٍ كليَّةٍ؛ لكونها صورةً ذهنيةً إدراكيةً عصية وعرة الفهم وبعيدة المنال في بعث صورةٍ حسيةٍ الفهم.
وهذا السمت الفنِّي الذي يُميِّز قصائد التجريد الشعري في الشعر العربي الحديث وخاصةً ما يُعرف حداثوياً بقصيدة النثر الشعرية مخاض ولادة هذا التجديد, والَّتي يعدُّ الغموض التجريدي إحدى سمات ركائزها الأساسية المهمَّة كما يظنُّ ويعتقد الكثير من شعرائها وروِّادها الشباب.والتي يكون فيها التعبير اللُّغوي الشعري عادةً بؤرةَ اهتمام الشَّاعر ومناط تجربته في عملية التخليق والإبداع الشعري الذي يركِّز عليها دونَ الاهتمام بالوضوح والصفاء والاكتمال الفني للقصيدة. عندئذٍ تكتمل خطوط رسم اللَّوحة الشعرية عند الشاعر, وهو مبتغاه الفنِّي ومقصده الذاتي الأخير. والذي يبتعد فيه عن سياقات وآليات تنميطاته الرتيبة المُتبعة؛ لتصبح واقعاً إبداعياً شعرياً مُغايراً.
وقد يختلف عنصرا الإيحاء والدلالة الشعرية عند شاعر ما من شعراء التجريب أو التجريد التعبيري الفنِّي عما يرمي إليه كلُّ شاعرٍ ويعنيه من مقاصد وغاياتٍ فنيَّةٍ وجماليَّةٍ بعيدة كلَّ البعدِ عن كلِّ شاعر منهما؛ وفقاً لخارطة الشعر الحداثوية التي وضع تصميمها وفق معجمه الشعري.
ومن الطبيعي أنَّ الأدب الشعري فنٌّ قائم بذاته التكوينية على تشكُّلات الألفاظ والعبارات وعلى بنيتي الشكل والمضمون الشعري, فإنَّ أُسَ الكتابة الأدبية وقوامها الإبداعي الفني المتمايز هو تقنية التجريد, أي بمعنى تجريد الألفاظ وتفريغها من لباسها اللُّغوي المعنوي المكين المعروف؛ وذلك اعتماداً على حاسة الشعور السمعي (الصوتي) بدلاً من المعنى اللَّفظي السياقي المُعجمي. ولذلك ترى الشاعرة الإنكليزية(أديث ستويل) بأنَّ القصيدة التجريدية هي التي تختار كلماتها بعنايةٍ اعتماداً على حاسة (السماع الصوتي) بدلاً من المعنى السياقي المُعجمي المُتعارف عليه لغوياً.
المُدونةُ الشِّعريَةَ(بِبَطْءٍ مِثلُ بَرْقٍ)
وإثر الانتهاء من مقدِّمة المِهاد التنظيري الذي آثرنا من خلاله المضي قُدُماً باستراضةٍ سياحيةٍ مَعرفيةٍ تفصيلية وتوضيحيةٍ لمفهومي(التجريب والتجريد) الشعريين في دراستنا النقدية لشعرية حسن عاتي الطائي الأسلوبية في مدونته الشعرية الرابعة,(ببطءٍ مِثلُ بَرْقٍ) الصادرة عن دار الرفاه للطباعة والنشر بطبعتها الجديدة الأولى في عام (2020م), ومن فئة القطع المتوسِّط بـ(96) صفحةً, والتي تضمنت محتوياتها (35) نصَّاً شعرياً من نصوص قصيدة النثر الحداثوية حصراً.
ولا بدَّ لنا من خلال الإمساك بتلابيب هذه المجموعة أنّْ نكشف عبر إجرائنا التطبيقي عن آليات هذا المزج الأسلوبي الفني لثنائية التشعير التجريبي التعبيري والتجريدي الفنِّي وعن قيم مِساحة المراوحة الفنية بين أعرافهما الفكرية والروحية والعقلية وتوخي نظم فكرة مقصدياتهما وأبعادهما الجمالية الحداثوية القريبة والبعيدة في الشعرية العربية عامَّة والعراقية على وجه الخصوص.
ولنقف في هذا المقام التحليلي جادين ومُتأمِّلينَ مضامين وتوجِّهات الشاعر الإبداعية, وسبر أغوار فلسفته الفكرية بعمق في تخليق منجزاته الذاتية التي انتجت هذه المدونة الشعرية التي تنماز بكثافة حجمها النوعي لا الكمي. هذه المدونة التي جاءت للتعبير عن موضوعاتٍ فكريةٍ واجتماعيةٍ وثقافيةٍ وروحيةٍ وجماليةٍ عديدةٍ وشتَّى. فمن هذ التعدُّدية خَطَّ الشاعر حسن الطائي بكلماته وجمله الشعرية المتراتبة وصياغاته الفنية التعبيرية المتماسكة رؤى مخاضاته الفكرية العسيرة وتجاربه الإبداعية المتجددة. فكتب الشاعر الطائي بريشته التجددية كلمات وجُمل لوحات قصائده اللَّونية ناشداً فيها الحياة والجمال والطبيعة الكونية وعناصرها التكوينية سواءٌ أكانت الساكنة أمْ المتحركة.
فرسم حسن الطائي بفرشاتِه تجريباتهِ وتجريداتهِ التعبيرية حقولاً إثرائية جديدة عديدةً ومُتنوِّعةً مثل,(النهر والبحر والحقل والحدائق والمطر والطيور العصافير والفراشات والزهور والغيوم والبرق والنجوم).وأرخن موثِّقاً للذات الإنسانية, وكتب للأُمِّ وللحبيبة وللحريَّة وللحُلُم والحنين والسرور ودوَّن للرغائب الذاتية الشديدة, ولكلِّ ما هو متحرك نابض وجميل يتَّصل بآفاق الحياة الدافقة بالحيوية والجمال والتطلُّعات والمقاصد والآمال الرفيعة التي تتصل بِهُويةِ الآخر الجمعي.
أُسلوبيَّةُ الطَّائِي الشِّعريَّةُ
لقد اجتهد الشَّاعر حسن عاتي الطائي كثيراً في أُسلوبية معجمه الشعري, وكان بحقٍّ مثابراً واعياً لخطى قواعد شعريته الحداثوية, ومدركاً لثقافة الذاتية, ومُلبياً لمتطلبات حاجاتها العصرية المواكبة للحدث. فجاءت قصائده النثرية مكثفةً الأحداث بوحداتها الموضوعية, واقتصادها اللُّغوي المكين. ولم تكن فكرتها التجدُّدية تكراراً شعرياً مملولاً رتيباً لتجارب غيره من الشعراء, ولم تكن موضوعاتها اجتراراً فكرياً مُعاداً مكروراً وممجوجاً ناتجاً عن فعل محاولاته الذاتية والجمعية السابقة, بل كان التجديد هدفه وعنوان سمته الإبداعية, والبحث عن الجِدَّةِ في الموضوعات التأملية والجمالية المؤثِّرة التي لم تكن صدىً محكياً لغيره وطارئاً على هامش الشعرية الجديدة.
فقد كان الطائي صادقاً في نقل معاناة ذاته الإنسانية من خلال إيثاره التقني التعبيري في تجريبه وتجريده الفنِّي الذي ميَّزَ أسلوبية معجمه الشعري الحديث في قصيدة النثر عن مُجايليه من الشعراء المعاصرين. إيماناً منه من أنَّ التجريب هو مرآة الحياة اليومية التي يرى فيها صورة الواقع المتغير بعين بَصريَّة صادقة لا رتوش فيها ولا غواش مُبهم يحجب عنه صورة الراهن الحاضر. وأنَّ التجريد هو الصورة الفنيَّة المُثلى التي بها تكتمل ألوان وصور لوحاته الشعرية المهذبة النقية الصافية جمالياً من كل شوائب القبح المُسيء واللَّمم بروعة جمالها الفنِّي الرائق وبسحر وعذوبة بيان فكرتها المستحسنة التي تجذب تفاصيلها واعية وذوق المتلقِّي وتثير مناط إعجابه وفضوله.
لم يكن ذلك كلَّ همِّ وهاجس حسن الطائي في معمار أسلوبية الشعرية الفنيَّة في تأثيث قصيدة النثر التاي تعدُّ من أصعب ألوان الشعر العربي الحديث, لا لأنَّها تكمن في سهولتها التركيبية ومستوياتها اللُّغوية تفتقد إلى خاصيتي الوزن والقافية على مستوى الإيقاع الخارجي, وتمثل النفوذ إلى عمق الأشياء الكلية فحسب, بل لأنَّها حقيقةً تحتاج إلى موهبةٍ إبداعيةٍ كبيرةٍ فذةٍ ومثابرةٍ عاليةٍ وجهدٍ فنِّي خلَّاق للتمكُّن من تطبيق شرائطها وسنن آلياتها والقدرة على تأثيث تقنياتها اللُّغوية الفنيَّة والصورية والتركيبية والجمالية الانزياحية التي لا نجدها قائمة في إطار القصيدة التقليدية التراثية ذات الأوزان الخليلية الموسيقية المتراتبة الوحدات الصوتية والعروضية التي تميِّزُها عن مثيلتها.
لم أجد في تأمُّلي بخطاب الطائي الشعري أنَّ الشاعر يميل إلى تقنية الغموض المُغلق المُستحكم البعيد المنافذ والأبواب الذي يَسير بخطى ركابه الكثير من شعراء قصيدة النثر الجديدة للتمويه عن ضعف شعريتهم وعجزهم الإبداعي في هذا النظم الشعري الجديد. فقد كان غموض وإبهام الطائي غموضاً رمزياً فنيَّاً تجريدياً جمالياً مقبولاً. وكانت تكراراته في ترتيب إيقاعاته الداخلية تكراراتٍ تجدُّديةً تعبيريةً عن واقع الحال وقيم الجمال الروحية, وكان دائماً يبحث عن مواضع الجِدَّة التي تضمن لقصيدته عناصر الخلود وديمومة الحياة المستمرة بدلاً من عُسرة الموت الرحيم المفاجئ.
إنَّ الميزة الأهمَّ في شعرية حسن الطائي على مستوى التجريب والتجريد الفنِّي في إنتاج وصنع قصيدة النثر الحيوية, هو الاعتماد في التعبير التجريبي على واقعية الاتصال الفكري المباشر مع المتلقِّي ومواجهته -تلقائياً- مواجهةً تكشُّفية بعيداً عن كل أشكال الغموض والإخفاء في اعتماده لفنيَّة التجلي والإظهار وعدم الإكثار من الإضمار والاستتار الكُلِّي. بينما الاتجاه الثاني التجريدي الفنِّي الانحرافي لبنية هذه القصيدة يتكئ اتِّكاءً كليَّاً على ميزة التواصل الفكري الشعوري المجرد من معاني الألفاظ إلى موحيات العمق الفكري الثيمي والنفاذ بالوعي لعناصر النصّ الفنِّي الذي يشتغل عليها الشاعر في بؤره الضوئية ومناطق إشعاعه الفكري والجمالي اللَّافتة المثيرة خلف الألفاظ.
تَداعيَاتُ العَتبةِ العُنوانيةِ
حين نجوس النظر والتأمُّل بإمعانٍ جيِّداً في عتبة عنوان المدونة الشعرية(ببَطْ مِثْلُ بَرْقٍ), نجد الفرق كبيراً في دلالاته اللُّغوية الحقيقية البعيدة. حيث المعنى الدلالي المتضاد بين دالة المفردة (بِبَطءٍ) في سير الحركة الفاعلية الوئيدة للحدث الخاطف, ودلالة المفردة(بَرْقٍ) الدال معناها على السرعة في الحركة الضوئية للبرق أو الوميض المشع بالبريق واللَّمعان المخالف لدلالة البطءِ. فالطرفان (البطْ ُوالبَرقُ) صورتان لاتجاهين متضادين متغايرين في المعنى والحركة وسرعة الإضاءة في مثل هذا التعبير الفني الانزياحي الذي مال فيه الشاعر ميلاً معاكساً وشديداً. مما يؤشِّر معناه السيمائي الرمزي إلى موحياتٍ بعيدةِ الأثر في ثنائية الإبطاء والإسراع للسنين التي مَّرت به.
وهذا التناقض العنواني القصدي يدلِّلُ على أنَّ قصائد الطائي بطيئة وثقيلة كسنين عمره التي تمضي وتتدفق باستمرار فلا يُشعر بها حركياً رغم أنها خاطفة مثل برق وامض نافذ. والجمع بين المتضادينِ له تأثيره النفسي الكبير على شعور المتلقِّي والقارئ., وله فعله الإيجابي والسَّلبي الذي يَهبُ النَصَّ الشعري أهميةً جماليةً على مستوى الحداثة الشعرية التي ترى في ذلك إبداعاً قارِّاً.
(بِبَطءٍ مِثلُ برقٍ) هو عنوان داخلي صغير لقصيدة من قصائد الديوان الجمعية الذي أخذ منها التسمية ليصبح عنواناً رئيساً أوليَّاًّ لبوابة المدونة الشعرية نفسها؛ كونه يمثِّل بحقٍّ النافذة الضوئية الأمامية الأولى التي نطل من خلالها على عوالم النص الرسالي الجمعي الداخلي الموازي للعنوان. وقد أراد الشاعر من ذلك العنوان أن يكشف لمتلقيه فنيَّاً ما يدور بنفسه من هواجس وتداعيات مرَّة:
مَرَّتِ الَّسنَوَاتُ عَلَينَا
بِبَطْءٍ مِثْلُ بَرْقٍ
رَأَينَا فِيهَا الكَثيرَ مِمَا نُرِيدُ
وَمِمَا لَا نُرِيدُ أَنْ نَرَاهُ
لَكِنَّنَا لَمْ نَرَ خِلالِهَا
أَنفسَنَا جَيِّدَاً(4), حسن الطائي, ص35)
إنَّ أهم َّما يُميِّز هذه الدفقة الشعورية هو عنصر المفارقة الضوئية. فعلى الرغم من جماليات هذا المقطع التعبيري التجريبي المحتدم بالتكثيف الشعوري الذي استهل به الشاعر قصيدته الدالة على العنوان ذاته, فإنَّ ما مرَّ به من أحداثٍ جمةٍ ورغائبٍ مقبولةٍ أو غير مقبولةٍ نتيجة تأثيرها النوعي الصادم له أمر طبيعي, ولكنَّ غير الطبيعي أنه لم يجد نفسه الحقيقية فيها,بل يعتقد أنَّه مازال عائماً على ضفاف شاطئها المتلاطم الأمواج برغم كون الواقعة الحدثية قد مرَّت بطيئةُ كَمَرِّ السِّنين.
الاتِّجاهُ الأوَّلُ: مَسارُ شِعريَّةِ التَّجريبِ
فمن خلال هذا المسار التجريبي الذي تمَّ التقديم له والتَّعرُّف على قواعد فنِّه الشعري في المهاد المتقدم أول الدراسة؛ لكي نذهب إلى التطبيق الإجرائي العملي لنصوص الطائي الشعرية في هذا الاتجاه.ولنتأمَّل ما يقوله الشاعر في ختام قصيدته(لَمْ يَكُنْ كًمَاَ كُنَّاّ) الدالة على أفقها الفنِّي والمعنوي والَّتي ينفذ فيها إلى عمق تجربته الذاتية غير المستقرة في الحياة التي تتجاذبها رياح الأهواء والتقلُّبات. ولنقرأ أيضاً الرغبة الحقيقية الصادقة في تعبيره التجريبي لتلك الصور الفنيَّة والجمالية التي رسمها لوحة حرَّةً تُلامس مشاعر المتلقِّي دون حاجة لوسيط يفكُّ رموزها وشفراتها اللُّغوية والدلالية. والأكثر من تلك المشاعر التي رسمها في لوحته التعبيرية جعل ختام القصيدة بالمطلع:
عَزَاءً لِمَتَاعِبِنَا
لَكِنَّنَا كَالطُيُور ِلاَ وَطَنٌ ثَابِتٌ لَهَا
لَمْ نَعُدْ كَمَا كُنَّا
أَصْبَحنَا مُختَلِفِينَ جِدَّاً(5), حسن الطائي, ص 82).
ومن محاولات الشاعر الفكرية والروحية الجميلة التي يُفتتُ فيها الطائي قواعد المألوف الشعري المرتهن الحالي لبنية القصيدة النثرية, وذلك من خلال آفاقه الشعرية وجِدَّةِ صوره الفنيَّة المُبتكرة في التعبير التجريبي الشعوري التقريري الراكز. والذي يجمع فيه بين مدلولين كبيرين هما(الأُمُّ والمدينةُ). فيحيل في تفكيره الصوري المدينة إلى أُمٍّ رؤومٍ حقيقيةٍ مثل وجها المستبشر بالفَرح الذي يمدُّه بنسغ الحياة والأمل. ولعلَّ صورة التقارب بين الاثنين هو وجه الشبه بينهما, فالأمُّ كما يصورها هي وطنٌّ, والمدينة أمٌّ لهذا الوطن الكبير أينما حَلَّ وارتحل وغاب عن أُفق الحضور:
كُلُّ مَا أَتذكرُ مَدينَتِي
أَستَعِيدُ وَجْهَ أُمِّي
وَجهُ أُمِّي وَمَدينتِي مُتشابهانِ
وَلِذَلِكَ فَإنَّهَا حِينَ اِنتقَلَتْ
ذَاتَ يَومٍ إِلَى الضِّفَةِ الأُخرَى
مِنَ النَّهرِ لِلاستَقرَارِ هُنَاكَ
لَمْ تَترُكنِي وَحِيدَاً
تَرَكَتْ لِي مَدِينتِي
وَبِهَذَا لَمْ يَعُدْ ثَمَةُ فَرَقٌ
بَينَ مَدِينتِي وَأُمِّي …(6), حسن الطائي, ص 7).
فالقصيدة على الرغم من كونها جاءت تعبيراً حسيِّاً تقريرياً مباشراً لأرخنة وتدوين مشاعره وأحاسيسه الذاتية العاطفية الانفعالية الحافلة بالذكريات, لم يقلل ذلك التعبير من سمت قيمتها الفنية والجمالية؛ كونها قصيدةً تغورُ في أعماق النفس الإنسانية وتعبِّر بصدقٍ عن تجارب الذات الروحية الشعرية التي تلفت نظر المتلقِّي إليها بوقع جماليَات انتقالاتها وصورها الفنيَّة العذبة المسترسلة بعيداً عن تشكُّلات الغموض والتعقيد اللَّفظي والمعنوي المُبهم الصعب الإدراك والفهم على الذهن.
ومن الأساليب الشعرية المعاصرة التي تُميِّز مُعجمية شعر الطائي التعبيرية تلك الجمل الشعرية الطويلة التي يمتدُّ فيها المقطع الشعري إلى جملٍ عديدةٍ تَمتدُّ كثيراً بحبلها التعبيري الطويل امتداد النَفَسِ الشِّعري, ومع انتهاء طول الدفقة الشعورية لكلِّ مقطعٍ من مقاطع قصائده. وَلا أدلُّ على ذلك التجريب ما نجده في قصيدته ذات الثنائية (حَبيبانِ استثنائيان) التي يقول في مستهلها الافتتاحي:
عَلَاقتِي بِالأنهَارِ جَدليَّةٌ لَمْ تَتَغيَّرْ
بِرَغمِ المِياهِ الَّتي أَغرقَتهَا
وَالجَفافِ الَّذي حَاصَرَنِي
فَحينَ نَشعرُ بِالظَّمَأِ
أَمْسَحُ عَنْ خَدَّيهَا غِبارَ الأَسَى
وَأَعاهدُهَا عَلَى الدِّفَاعِ
عَنْ عَينَيهَا الطَّاعِنَتَينِ بِالشُّروقِ(7), حسن الطائي, ص 49)
مثلما كانت علاقة حسن الطائي حميميةً بالأُمِّ والمدينة علاقة ارتباطٍ روحيٍ عميقٍ, فإنَّ علاقته الشعورية بالنهر أحد مظاهر الطبيعة الكونية المُتحركة علاقةً جدليةً أزليةً واثبةً. فالأنهار على الرغم من ارتوائها بالمياه حدَّ الغرق والفيضان يهب الشاعر منتفضاً بنخوته السومرية الجنوبية المعروفة لنجدتها وإنقاذها من ذلك الخطر المُحدِق بها رغمَ جفافه الرُّوحي ونضوبه الجسدي وقلِّة روائه الحركي. إذن العلاقة بينه وبينها علاقة تضاد(إيجا سلبي), وكأنَّ الأنهار حبيبته الأثيرة التي يرفع عنها صور البؤس والأسى والشقاء الرُّوحي الذي تمرُّ به في مثل هذه الصورة الإنسانية.
وَلِنُجِلِ النظرَ مليَّاً في أُنموذج شعري أخرَ من نماذج حسن الطائي الشعرية المعبِّرة عن وقعِ شعوريته التجريبية التي هي انعكاس حقيقي ناتج عن فعل التجربة الثرَّة التي ينفذ من خلالها لروحه الفكرية المحاصرة بتزاحم الأسئلة التي تلوح في أفق ذاته الشعرية وتُحَلِّقُ عالياً في فضاء سمائها,فتقتفي آثارها للبحث عن إجاباتٍ قارَّةٍ مقنعةٍ يشفي بها غليله الثائر بحثاً عن الأمن والسلام:
كَثِيرةٌ هِيَ الأَسئلةُ تُرفرِفُ حَولِي
وَتُحَلِّقُ فِي أُفقِ سَمَائِي
وَتَقتَفِي أَثَرِي
وَتَضطَرُنِي لِلحُوارِ مَعَهَا
أَو الاِستماعِ إِليهَا
تَتركُنِي دُونَ إِجابةٍ
أَو تُحِيلُنِي لِسؤالٍ جَديدٍ
أَيْنَمَا تَوَجَّهتُ أَو هَربتُ
أَجدُهَا قَدْ سَبقتنِي مُتَدَثِّرَةً بِالبُكاءِ
تَلفتُ الأَنظارَ إِليهَا(8), حسن الطائي, ص 61)
هكذا هي صور أسئلة الشاعر الطائي كثيرة الفعل شديدة الحدث الواقعي بزمن تاءات أفعالها التشاركية الحاضر والمستقبلي (تُرفرفُ, تَقتفِي, تَتركنِي, تُحيلنِي, تَلفتُ). لقد أسهمت هذه الأفعال بزمنها الآني في تفعيل أثر الصور الحركية لقصيدة (الأسئلة), وفي رسم لوحة معماريتها الفكرية الزمكانية وتصويرها الفنِّي الشعوري الجمالي المتراتب بطريقةٍ تعبيريةٍ بسيطةٍ شائقةٍ تُناسب إيقاع واقعة الحدث الموضوعية التي يروم فيها الشاعر الوصول آمناً إلى ضفتها الفكرية علَّه يجد نفسه فيها مشاركاً فاعلاً؛ كونه شاعراً قبل إنْ يكون إنساناً عادياً تُحاصره جميع أسئلة الحياة بنفس التساؤل الفكري, ولكن ليس بنفس اللَّفظ والمعنى والصور الجمالية لقيمة المبنى الفنِّي للحصول عن إجاباتٍ وافيةٍ مقنعةٍ. إنَّها أسئلة الذات الشاعرية الحَرَّى إلى الذات الجمعية الأخرى (المتلقّية).
حسن عاتي الطائي مثلما هو إنسان عادي طبيعي له رغبات وتمنِّيات ومنالات بعيدة وأحلام وأماني ومقاصد كثيرة يسعى لتحقيها إنسانياً واجتماعياً, فإنه في الوقت ذاته كشاعر في هذه المرَّة, ولاسيَّما في قصيدته التجريبية الأخيرة في الديوان التي جاءت تحت عنوان(الهزيع الأخير), يُعلن بكامل قوته إذعانه واستسلامه السلمي في التخلِّي عن وسيع أحلامه والكفّ عن التلويح بها مطلباً إنسانياً وفكرياً لا بدَّ منه, ويدعو إلى ترك نفسه الأمَّارة بالحبِّ والرغائب والتمنَّيات أن تمضي على سجيتها الفطرية,وأنْ تقرِّر نفسها بنفسها دون تدخُّل روحيٍ بها, بما يراه جديد رؤيته الفكرية.
والسؤال الملح, تُرى ما الشعور النكوصي الذي دفع الشاعر الطائي إلى الإعلان عن توقُّف حركته الرفضية الاحتجاجية عن تحقيق مآربه الحلمية ؟ وهل هو الاعتزال لأبدي أم أنه مجرد إعادة ترتيبٍ جديدٍ لأوراق حياته الشاعرية التي تبحث عن تمظهرات الجِدَّة في الثابت والمُتحوِّل:
فِي الهَزيعِ الأَخيرِ مِنْ حَياتِي
قَرَّرتُ أَنْ أَكُفَّ عَنْ التَّلويحِ بِأحلامِي
وَالسَّماحَ لَهَا بِأنْ تَسترخِي
وَتَغمضُ عَينيهَا قَليلَاً
مُحَاوِلاً تَرتيبَ أَوقاتِ عُزلتِي
بَينمَا الوَقتُ يُحاوِلُ اِحتجازِي
وَيَحُولُ بَينِي وَبَينَ أَنْ أَضعَ يَدِي
عَلَى سَبَبِ اِنكفائِي (9), حسن الطائي, ص91, 92)
واللَّافت على قصائد حسن الطائي مَيلُهُ الشديد إلى توظيف ثنائية التضاد (الإيجا سلبي), فمثلاً عنده القوة في اشتغالاته يقابلها الضعف, والإقدام يقابله الإحجام, والانطلاق يقابله الكفُّ, والحرية يقابها الكبت والظلم والحرمان, والاحتراق يقابله عدم الاحتراق, والتبذير يقابله الزهد والكفاف الروحي وحرية الذات يقابلها جلد الذات, والرواء يقابه الظمأ والجفاف, وغير ذلك من فصيلة المتجاورات الدلالية التي يزخر بها معجمه الشعري الثر.وبالآخر فإنَّ جميع هذه التساؤلات الثنائية المتضادة استحضرها الطائي في مدونته هذه(ببطٍ ء مِثلُ بَرقٍ),وبها تمكَّن أن يرسم صور لوحاته.
وها هو ذا الشاعر حسن الطائي يطل علينا في مستهل قصيدته الذاتية(رغبةٌ) الدالة على وظائفها العنوانية السياقية الأربع:(التعينية والوصفية و الإغرائية والإيحائية) التي قررها (جيرار جينيت) لها. يطالعنا بثنائية القوة المُتجسِّدة بلفظة الفعل(أرغبُ), وبلفظة المفردة (ضَعيفٌ) المضادة في فعلها لدلالة الرغبة في فعل الأشياء الجوهرية التي أراد الشاعر أن يبوح بها لقارئه النابه العليم.
ومن خلال هذا التوجُّه الشعري اللَّافت بلغته الشعرية الواضحة وصوره الفنيَّة المسترسلة يُحيلنا الشاعر حسن في أغلب قصائده النثرية إلى تقنية توحُّد جماليات الأضداد التقابلية التي يحبُّ فعلها الحركي الفكري, وينتشي بمساراتها الصورية التجريبية,, وكيف تمضي بالقصيدة درامياً وفنيَّاً:
أَنَا أَرغبُ فِي تَغييرِ العَالَمِ
وَلكَّننِي ضَعيفٌ مِثلُ حَقيبةٍ مُتقاعدةٍ
وَبِحاجةٍ إِلَى عُدَّةٍ كَافيةٍ
لِلتفَاهُمِ مَعَ الاَنقَاضِ مِنْ حَولِي
وَتَعَلُّمِ كَيفيةِ الاِعتناءِ بِرَغبَتِي
وِبِمَا تَركتهُ الأَيامُ مِنْ شُروخٍ
إِنَّهَا سَذاجةٌ تَتَجاوزُ البَراءَةَ
وَلَكِنَّهَا لَيستْ جَريمَةً(10), حسن الطائي, ص 89)
والمتأمِّل لسطور هذه الدفقة الشعورية التقريرية المنضبطة التجريب, سيلتمس أنَّ الأنا الذاتية بقدر ما فيها من رغبة وهمَّةٍ وشجاعة وإقدام قد شُلَّتْ وتوقَّفتْ حركتها عن فعلها العملي؛ كونها رغبةً واهنةً ضعيفةً وغيرَ قادرةٍ على النهوض بمجسَّاتها الضوئية الفعلية المُتحركة حتّى استحالت إلى زاوية زمنية تالفةٍ أو ما يسمِّيها حقيبةً تقاعديةً تمثِّل نهاية الخريف العمري. وذلك كونها بحاجةٍ إلى قطع غياراتٍ جديدة بدلاً من التالف الذي لا يَفِي قيامه برغبةٍ في عمل حركي نشيط في التفاهم مع هُويَّة الطرف الآخر.مثل هذه المفارقات الشاعرية التجريبية نجدها ماثلةً في طيَّات هذا الديوان.
الاِتِّجاهُ الثَّاني: مَسارُ شِعريَّةِ التَّجريدِ الفَنِّي
إذا أردنا أن نذهب في سياحة معرفية تأملية في قراءة قصائد حسن الطائي التجريدية في صفحات مدونته الشعرية(بِبَطءٍ مِثلُ بَرقٍ), لا بُدَّ وأنْ نكتشف التجريد الفنِّي التعبيري الذي يتحلَّى به أسلوب الطائي في خزينه الثرِّ لسقف المعاني الفكرية واهتمامه الجيَّد الواعي بما يختبئ خلف المفردات من إيحاءات رمزية شعورية مكثَّفة جداً يقف عندها مُضمرَاً مُتخفيَاً بتوجيهها نحو هدفها.
وتأسيساً على ذلك الاستيقاف الفكري المُستتر يبني الطائي هندسة نصوصه الشعرية في فضائه التجريدي المُعبِّر على مِساحاتٍ من الوحدات الشعورية الدافقة التراتب, وليس على مسار أو هدى الوحدات المعنوية, بل يمضي معبرًا بما وراء الألفاظ من تجلِّياتٍ شعوريةٍ يُضفي عليها تجريداً فنيَّاً يرسم فيه لوحاته الشعرية رسماً محكماً لافتاً بتقنيات المؤلِّف الميت المجهول الذي يختبئ مستتراً ومضمراً وراء نصوصه التي يستهدف فيها المتلقِّي الحصيف(الناقد)والقارئ لفكِّ شفراتها وتحليها.
ومن بين النماذح الشعرية الجيِّدة التي اهتمَّ بها الشاعر الطائي في اشتغالاته وفق الثقل الفنِّي الشعوري قصيدته(مُتحدثٌ رسميّ) التي يقول في مقطعها الأوَّل معبِّراً عن رؤاه وتجلياته الذاتية :
حِينَمَا أَذهبُ يُرافقُنِي الصَّمتُ
بَيننَا شَراكَةٌ غَيرُ عَاديَّةٍ
لَمْ نِتجاوزهَا أَو التَّخلِّي عَنهَا
أَو الاِنقلاَب عَليهَا
لَكِنَّنِي اِتَّفَقتُ مَعهُ مُؤخَّرَاً
حَولَ نُقاطِ الِاختلافِ
الَّتي تَفصلُ بَينِي وَبَينَهُ
وَبِهذَا: فَقدْ كُنتُ مُتَّسِّقاً مَعَ صَمتِي(11), حسن الطائي, ص 70)
وعند تحليلنا لهذا المقطع الشعري الدافق بإيقاعه الشعري والنابض بتمظراته الشعورية الظاهرة والخفية المستترة التي استهل بها الشاعر استكمال قصيدته, لابدَّ لنا أنّْ نقف على مواضع الثبات اليقيني القلبي, وأنَّ أول موضع من هذه المواضع اليقينية المؤكَّدة الثبات, هو العنوان كما يرى الناقد الفرنسي(ميشال أوتان)(12) ينظر: ميشال أوتان, ص 116).فالعنوان إذاً هو هالة النصِّ الموازي اللَّامعة.
ومعلومٌ أنَّ العنوان هو بمثابة (ثريا النصِّ) المعبِّرة عن الفكرة الأساسية التي يتوخاها ويدور حولها النص الموازي المرسل(الرسالة النصيَّة) إلى المتلقِّي. فعنوان القصيدة هذه(مُتحدِّثٌ رسميٌّ), وبطبيعة الحال أنَّ العنوان يقدِّم لنا في سياقه الفنِّي تفصيلاً شعورياً وشعريَّاً دقيقاً لما يبتغيه هذا المتحدث الرسمي, كون الشاعر قد أنسن وروَّض هذا(المُتحدِّث الرَّسمي)وجعله إنساناً ورفيقَ دربٍ له في حضوره لشعري رغم مخالفته له في بعض المواقف الذاتية الكبيرة التي تتطلَّب حزماً تامَّاً.
بيدَ أنَّ ارتضاءنا أن يكون المتحدث الرسمي الذي يقدِّمه عنوان القصيدة محوراً مركزياً يقينياً ثابتاً غير قابل للشكِّ يُحرِّضنا باندفاع شديدٍ على الربط الفنِّي التجريدي بينه كعتبةٍ أيقونية مهمَّةٍ وبين ما يمكن أنْ يصل إليه من كشف وتحليل وتأويل هرمنيوطيقي جمعي لمقاطع القصيدة كلِّها.
أمَّا المقطع الثاني من مواضع اليقين الراسخ, فهو توجُّه الشاعر حسن عاتي الطائي في قصيدته هذه نحو تلكم, هو الذات الشاعرية المُتحدِّثة عن أنسنة هذا المتحدث الرسمي. ودليلنا على ذلك أنَّ القصيدة على الرغم من مراوحتها وطولها المقطعي بين ثلاثة مقاطع شعرية طويلةٍ يدور حوارها بين مُتكلِّم وغائب, وقد يكون الغائب ذاته الأخرى. وقد احتوى المقطع الأوَّل على (ستةِ) ضمائر للمتكلِّم والغائب ما بين مضمر وظاهر هي,(أنا, ياء المتكلم, هو, ياء المتكلم, تاء الفاعل, هي).
في حين احتوى المقطع الثاني من القصيدة على (ستة عشر) ضميراً من ضمائر المتكلِّم والغائب أيضا ما بين مضمر وظاهر,(تاء الفاعل, ياء المتكلِّم, ياء المتكلِّم, ياء المتكلِّم, الهاء, الهاء, الهاء, أنا, هو, هو, ياء المتكلِّم, هو, ياء المتكلِّم, أنا, أنا, ياء المتكلِّم). أمَّا المقطع الثالث فقد احتوى على (أحد عشر) ضميراً أيضاً للمتكلِّم والغائب ما بين ظاهر ومضمر هي,(ياء المتكلِّم, ياء المتكلِّم, أنا، الهاء, أنا, الهاء, ياء المتكلِّم, أنا, الهاء, أنا, ياء المتكلِّم). والغلبة في هذه للضمائر الظاهرة التي تمثِّل أكثرية التكلُّم الدالة على الشاعر. أمَّا المُضمرة منها فهي الأقلية الدالة على المُتحِّدث الرسمي الغائب. وبذلك يكون مجموع ضمائر الظهور والغياب التي تضمنتها هذه القصيدة(33) ضميراً.
وعند وقوفنا لتحليل هذه القصيدة نجد أنها موجَّهة من ذات إلى نفسها, وقد تكون هذه الذات هي ذات الشاعر نفسه أو غيرها ممن يعنيه الشاعر ويرمز إليه موحياً إليه من الذوات الأخرى. وأنَّ هذه القصيدة تربط بين كينونة الشاعر المُتكلِّم في عَرضه لتجلِّيات ذاته مع صنوه الآخر الغائب غيره المخصوص بالتحدُّث الرِّسمي بما لديه من مُسوغات استتاريةٍ وتبريريةٍ مُضمرة ٍيخفيها الشاعر عن نفسه مع ذاته الأخرى الجمعية التي أراد أن يكون فيها معاً مُتحدثاً رسمياً عن ذاته. وقد تجسَّد فعل هذا الخفاء الحركي في المقطع الأخير الذي تصالح فيه الشاعر مع ذاته الازدواجية:
أَطردُهُ وَأَجردُهُ مِنْ رِضايَ
وَأمنعُهُ مِنْ مُزاولةِ مَهامِهِ
وِأصبحُ أَنَا المُتَحَدِّثُ
الرَّسميُّ الوَحيدُ بِاسمِي! …(13), حسن الطائي, ص 72)
واللَّافت على سطور هذا المقطع الختامي من القصيدة أنَّ الشاعر قد ترك في آخر سطر منها فراغاتٍ أو تتمَّاتٍ للقارئ أو المتلقِّي كي يجد لها كلاماً مناسباً يتمَّ بها الخاتمة عن هذا المُتحدِّث.
وفي الوقت الذي تركِّز فيه القصائد التجريدية على توظيف الشاعر لجماليات اللُّغة والألفاظ واستعمالها بشكلٍ تعبيري غير مسبوق له من قبل؛ وذلك ليس من أجل نقل المعنى وتوصيل الفكرة وتحريك الدفقة الشعورية, وإنما لتوصيل الإحساس الشعوري الذاتي وتحفيز المشاعر والأحاسيس وحضِّها على تثوير الألفاظ والتجلِّي بها إضاءةً وتنويراً, وليس بدلالة الألفاظ ومغزاها. وعلى وفق ذلك تكون الألفاظ والجمل كألوانٍ مجردةٍ من دون تشكيل, أي تكون الألفاظ كلوحةٍ تجريديةٍ تعتمد في سحر تأثيرها النفسي واللَّوني على إيقاظ المشاعر وإثارة العواطف وجيشان الأحاسيس, وليس محاكاةً أو اعتماداً على المعنى الفكري ذاته.
ولنقرأ في هذا الاتجاه ما كتبه حسن الطائي في قصيدته (وحدي مِثلُ غيمةٍ) التي أطلق فيها العنان لمشاعره وأحاسيسه أن تُحَلِّقَ عالياً بصورٍ انزياحيةٍ مُتفرِّدةٍ في فضاءاته الشعرية التعبيرية:
عِندَمَا أَطلقَ البَحرُ سَاقيهِ لِلرِّيحِ
تَحرَّرتِ الطُّيُورُ
وَأخذَ الأُفقُ بِالاتِّساعِ
اِجتذبتهَا اِبتسامةٌ جَامحةٌ
الأَنهارُ لَمْ تَعُدْ كَسولةً
وَالحُقولُ أظهرتْ عَمَّا فِي دَاخلِهَا مِن مَفاتِن
لَكنَّنِي وَحدِي مِثلُ غَيمةٍ فَاجأهَا الطَّلَقُ
وَتعطَّلَتْ بِها الطُّرقُ(14), حسن الطائي, ص 85, 86)
لقد اعتمد الطائي في تنظيم هذه المقطوعة على جماليات التشكيل الصوري لمعاني لغته الشعرية التي شكَّل بها فضاءات لوحته الشعرية الخارجية والداخلية بضرباتٍ لونيةٍ معبِّرةٍ عن بؤرة الحدث المركزي الذي يروم توصيله. فها هو في مُفتتح قصيدته هذه, مرةً أخرى يمنح البحر أنسنةً ويسبغ عليه قوةً حركيةً وصوتيةً هائلة وهادرةً, فكأنَّه إنسان يسابق الريح العاتية بأقدامه الواثبة الخطى. وبالتالي يشكِّل الصورة اللَّونية الانزياحية اللغوية كي تلفت أسماع المتلقِّي وتدفعه إلى التعلق بها.
والشاعر في تجليات قصيدته هذه لا يعتمد فنيًاً على لغة الإخفاء والإضمار والاستتار في تمرير تجريده اللُّغوي, وإنَّما يُشكل جسد قصيدته الحركية بالتمظهرات الشكلية الظاهرة التي تتكون منها بنية القصيدة التجريدية. فمفردات مثل, (البحر, الريح, الطيور, النوافذ, الأنهار, الحقول, الغيوم, الطرق), تمنح القصيدة جوَّاً جمالياً مثالياً خالصَّاً من مكامن الطبيعة الكونية وعناصرها السحرية الثابتة والمتحرِّكة التي بها تكتمل الصور الفنية, وكأنَّه رسامٌ تشكيل تجريدي مُحترِفُ الإبداع يرسم أمكنة فضاء لوحته الشعرية بكلمات ومفردات فنية ذات تأثير سحري في نفوس الناس ومشاعرهم.
وفي قصيدته(تأقلُمُ) يخطُّ لنا الطائي لوحةً فنيَّةً تجريديَّةً تسخر فيها الألفاظ وتطفو المشاعر برؤية تأثيرهما البصري الدرامي أكثر من تأثيرهما بالمعاني الدلالية. معتمداً الشاعر في تلويناته الشعرية على تمظهرات الصور الفينَّة في تجريدها الانحرافي لدالة الدُّخان, والتي يشغل بها فكر القارئ في تلقيه, وتجعله متأقلماً ومتأمِّلاً فيها أكثر من استمتاعه بها. ومن ثم جعل خاتمة القصيدة عائمة مفتوحة بالتنقيط ليشاركه القارئ في تكملة هذه الدفقة الشعورية الواحدة التي شكَّلت القصيدة:
أَمامَنَا وَمَنْ خَلفنَا الدُّخانُ كَثيفٌ
يَلهُو فِي الطُّرقاتِ
يَسدُّ عَلينَا أُفقَ السُّرورِ
وَيعيقُ تَحققَنَا مِنْ جَدولِ أَعمالِنَا اليَومِي
وَلأَنَّ الأَمورَ لَمْ تَعُدْ كَمَا كَانتْ
اِستوطنَهَا الصَّدأُ وَاشتعلتْ بِالغبارِ
فَإنَّ تَأقلُمَنَا مَعَ الدُّخانِ أَصبحَ مُعقدَاً
وَلِهَذَا: مَازالَ لَيلُنَا طَويلَاً مِثلَمَا هُوَ طَريقُنَا!…(15), حسن الطائي, ص44)
فلننظر بتأمُّل واضح إلى الصورة الفنية التجريدية لدالة (الدُّخان الكثيف) الذي جعل منه الطائي كائناً حركياً غير مستقر, يلهو ويلعب في الطرقات. وفي ذات الوقت يسدُّ بحركته الانتقالية صور الفرح والسرور, ويعيق بحركته الواثبة التكثيفية استمرارية جدول أعمالهم اليومي. ونتيجةً لتلك الحركة يُصبح التكثيف والتأقلم مع صورة الدخان أمراً صعباً وتعقيدياً لا يمكن مجاراته. ويُعلِّلُ الشاعر ذلك السلوك غير الطبيعي له, بأنَّه أثَّرَ فيهم فجعل ليلهم طويلاً مثلما طريقهم كانَ طويلاً.
وفي محاولة أخرى من محاولات الطائي الشعرية التي يعتمد فيها كثيراً على خاصية الإضمار والاستتار الذاتي, نقرأ له المقطعين الأول والثاني من قصيدته الدالة على عتبتها العنوانية(أعزل إلَّا في الشعرِ) التي يبدؤها بضمير ا(أنا) الشاعرية في تشبيهات صورية جمالية فنية تترى في تواترها الحركي. ويمنحها في الوقت ذاته أناقةً لفظية انحرافية تزينها جمالياً ومكانياً له تأثيره الواضح:
أَنَا نَافورَة ُمَاٍء تَستعمِرُ المَكانَ بَالأناقةِ
وَحديقةُ وَردٍ تُربِكُهُ بِالجمالِ
أَطيرُ مِثلُ حَمامةٍ وَأَلمعُ مِثلُ نَجمةٍ
فِي طَريقِي إِلَى التَّجَلِّي
أَمسحُ دُموعَ القَمَرِ
أَبكِي عَلَى كَتفِ اللَّيلِ الَّذي اِكتَفَى بِالظلامِ
فَوقَ رَأسِي كَانتِ الشَّمسُ عَموديَّةً
وَبِذلكَ: فَقدْ تَشَكَّلَتْ دَائرةُ اِشتعالِي
وَأصبحَ فِي مُتناوَلِ يَدِي
مَا يَسدُّ حَاجَتِي مِنْ الحَريقِ
غَيرَ أَّنِّي اَستنجدُ بِشعرِي
فَأنَا أَعزلٌ إِلَّا مِن الشِّعرِ(16), حسن الطائي, ص 11, 12)
ويلاحظ في المقطع التجريدي الأول من قصيدته(أعزل إلَّا من الشعر) رغم تنامي لغة الشاعر البسيطة وحركة معانيه القريبة أنَه تضمَّن ثلاث صور فنية انحرافية انزاح فيها الطائي باشتغالاته الجمالية المتتالية التي اعتمد فيها على تقنية الإضمار الأنوي (أنا), كونه تارةً مُتكلماً ظاهراً حاضراً وتارةً أخرى مقدَّراً مستتراً والحبل السري الجامع بينهما هو الذات الشاعرية الفاعلة.
فالصورة التشبيهية الأولى, (أنا نافورةُ ماءٍ), والصورة الثانية بتقدير أنا (حديقةُ وردٍ), والثالثة التي اعتمد فيها على ضمير الاستتار أنا,(أطيرُ مُثلُ حمامةٍ). ولعلَّ وجه الشبه بينه وبين تشبيهات صوره الثلاث هو محل أناقة المكان الطبيعية الجميلة المزهرة بلمعانها النجومي وحركية طيرانها المتاحة.ثمّةَ صور انزياحية أخرى تلت تلك الصور الثلاث أكثر بهاءً وجماليةً انحرف فيها الشاعر بتجريده الفنيِّ مثل,(أمسحُ دُموعَ القمرِ), وكأنه إنسان يبكي,(وَأبكي عَلَى كَتفِ اللِّيلِ) مثل كائنٍ حياتي له كتفٌ. فرسم الطائي بهذه التجريدات الفنيَّة لوحةً شعريةً متماسكةً نابضةً بألوانها الحركية.
ومن اللوازم الثنائية التي عرف بها الشاعر الطائي أنه شاعر(الاحتراقِ والظمأِ), وفي المقطع الثاني من القصيدة ذاتها ينقل لنا دائرة اشتعاله التي تشكَّلت نتيجةَ تِلكَ الصور التواترية المتتالية, والتي جعلت منه يكتفي بِما يَسدُّ حاجتهُ من ذلك الاحتراق؛ لكونه أعزلاً فيلتهب ويستنجد بشعره الذي هو منقذه الأخير, ليس سواه مِن منقذٍ أو مُجيرٍ يُجيرهُ من احتراقه الذي أصبح لازمته اللَّفظية.
وننتقل إلى أعطاف قصيدة أخرى من احتراقات الشاعر المتكرِّرة في أطياف قصائده , وهذه المرَّة نجدها رابضةً شاخصاً في طيَّات السطر الأوّل من عتبته العنوانية (معَ كلِّ غيمةٍ تمرُّ أحترقُ بِمطَرِي)التي يفتتح بها مستهل قصيدة,ويتخفَّى بها مُستتراً وراء حُجُب ألفاظه المؤثِّرة الدلالة قائلاً:
مَعَ كُلِّ غَيمَةٍ تَمُرُّ أحترقُ بِمَطَرِي
وَأَركضُ خَلفَ حُلُمٍ عَنِيدٍ
آثَرتُ التَّخَلِّي عَنهُ مُبَكِّرَاً
أَكتبُ قَصيدةً لِعُصفُورٍ فَتِيٍّ
تَسَلَقَّ كَتفَ شَجرَةٍ
لَمْ تَستطعْ أَنْ تَشُدَّ قَامتَهَا
أَوْ أَنْ تَقِفَ عَلَى قَدَميهَا(17), حسن الطائي, ص 20)
تَقنيةُ شِعريَّةِ التَّكرارِ التَّجريدِي
التكرار الشعري ليس جديداً على أعراف فنِّ الخطاب الشعري سواءٌ أكان القديم أم الحديث,ولكن الجديد في شعر قصيدة النثر تجريد تقنية التكرار بقواعد وأسس فنيَّة لها أثرها البالغ في هندسة الشعر. وحقيقةً أنَّ القصيدة السابقة تضمنت خمسة مقاطع شعرية, كلُّ مقطعٍ منها له دلالاته الفنيَّة والجمالية التي تجرَّدَ فيها الشاعر حسن الطائي برسم شكل لوحته. معتمداً على تركيب وصياغة شبه الجملة المحورية(مع كلِّ غيمةٍ تمرُّ) التي تكرَّرت ألفاظها متواترةً في بداية مفتتح كلِّ مقطع شعري من مقاطعه الخمسة التي بنى عليها تأثيث جمله الشعرية المتوالية واقفاً مضمراً خلف أفعاله بضمير المتكلِّم المستتر(أنا) الذي يضمره كلُّ فعل من أفعاله الجُملية المقطعية. فضلاً عن ضمير شريكه الآخر الغائب(هي) في الفعل(تمرُّ),وبهذا الحسِّ التجريدي تماهى الشاعر مع صوته الآخر.
فالمقطع الأول من قصيدته(مع كلِّ غيمةٍ أحترقُ بمطري) يشي الفعل (أحترقُ) ببحث الاحتراق بالمتضاد له المطر, وأمَّا المقطع الثاني الذي يبدأ بقوله: (مَعَ كُلِّ غيمةٍ تمرُّ اَحتفلُ بُوحدتِي وأصفقُ سُرُوراً) فيشي الفعل(أحتفلُ) بالاحتفاء والفرح والابتهاج والسرور. والمقطع الثالث من القصيدة يبدأ بقوله: (مَعَ كُلِّ غَيمةٍ تَمرُّ تُرفرفُ هَواجسِي مِثلُ مُوجةٍ اَختطفهَا البَحرُ), يشي الفعل(تُرفرفُ) بحركة ارتعاش الهواجس الداخلية له. والمقطع الرابع يبدأ بقوله: (مَعَ كُلِّ غَيمةٍ تَمُرُّ تُهددُنِي الطُّيُورُ بِالاستسلَامِ لِلريحِ) يشي الفعل(تهددُني) بالخطر والخضوع والانقياد للريح العاتية. أمَّا المقطع الخامس والأخير فيبدا بقوله:(مَعَ كُلِّ غَيمَةٍ تَمُرُّ تَأخذُنِي مَعَهَا), فيشي الفعل (تأخذني) بالرفقة والتوحد معها. فمفتتح ُكلِّ مقطع من مدونة(الاحتراق) له معيته التي تصرَّف مَعَهَا الشاعر..
ففي كلَّ مقطع من مقاطع القصيدة الخمسة المتجدِّدة معنىً ودلالةٌ يرسم فيها الطائي بحسِّه التجريدي ومهمازه الفكري الواثب صوراً لونيةً متباعدةً في معانيها الفكرية والجمالية القريبة في دلالات ألفاظها من خلال تردُّدات الأفعال الحاضرة والمستقبلية الخمسة التي اشتركت بفاعلية الحدث الشعري(احترقُ, أحتفلُ, ترفرفُ, تُهدِّدُني, تأخذني). فالفعلان الأول والثاني تجرد فيهما الشاعر بضمير الفاعلية(أنا) الدال على الذات الشاعرية أو ربَّما على ذات غيرة, أمَّا الأفعال الثلاثة الأخرى فإنَّ ضمير الفاعلية المستتر(هي) دالٌ على الغيمة المرافقة بمرورها له.
ومن خلال ترددات هذا الإضمار والاستتار الخفي للأفعال الخمسة تتجلَّى براعة الشاعر في رسم مشاهد صوره الشعرية بتجرِّدٍ فنِّيٍ كبيرٍ وفق التردُّدات التَّكرارية الخمسة التي أضفت على إيقاع القصيدة الداخلي سمات اللوحة الفني المتعددة الوجوه والتوصيفات التي يتعرَّفُ من خلالها القارئ والمتلقِّي على الشاعر وينفذ لأعماقه الداخلية ويسبر آفاق تجلياته الانفعالية بصدقٍ ووفاءٍ.
وفي هذا المقام من الدراسة أعترف لشريكي القارئ أنِّي أجدُ بهذه القصيدة روحَ الشَّاعر قد تجلَّت وسمتْ, وأفكارهُ قَدْ استقرَّتْ, وصوره قد تثبّتت. وعلى عادته الشاعر ترك لنا نحن النقَّادَ القرَّاءَ ولمتلقيه النابه فراغاتٍ نُقطيةٍ(…) مفتوحةٍ لِيتمَّ بها خواتيمَ قصائده العائمة مشاركة منه في تفعيل حركية خطابه الشعري سواء بهذه القصيدة التي اشتغل فيها على تقنية التكرار الفنِّي أم بغيرها.
لم يكتفِ حسن الطائي بتقنية التكرار الداخلي في قصيدته السابقة, بل عاودها مرَّةً أخرى في قصيدته الأخرى(لا أدري) الدالة على لغة عنوان عتبتها التوحيدية مع الذات. وبلازمة التكرار التجدُّدي اللفظي (لا أدري) النافية عن الذات معنى الدراية والفهم. فقد كرَّرها الشاعر خمس مرّاتٍ في مستهل بداية كل مقطع شعري جديد, ويعتمد فيها على ضمير المتكلِّم المستتر(أنا) في الفعل المستقبلي (أدري)؛ ولكنْ بتكرراتٍ أخرى مع أداة الاستفهام (لماذا) المصاحبة للفعل المضارع بعدها يبحث فيها الشاعر عن استجابات قارِّةٍ يطمئن إليها من خلال حركته التجريدية الفنيَّة المتراتبة الصور. ففي مفتتح مقطعه الأول يبداً بلا النافية اللَّازمة مع الفعل قائلاً:
لَا أَدري لِمَاذَا خَرجتُ عَنْ نِطاقِ مَجموعتِي الشَخصيَّةِ
وَفَضَّلتُ الدَّورانَ حَولَ فَلكٍ غَيرِ جَديرٍ بِالاطمئنَانِ
مَليءٌ بِالمفاجآتِ؟
وَاقتربُ كَثيراً مِنَ الاِقتِرَانِ بَالسَّرابِ(18), حسن الطائي, ص 39)
وابتدأ المقطع الثاني بتساؤله التأكيدي النافي للدراية بكأس ظمئه المهرق محتفياً برسم صور تقنية تجريده الفنِّي المنزاح الذي مال فيه ميلاً فنيَّاً أنسن البحر حين جعل له فماً, وصيرالرمال شراباً:
لَا أَدرِي لِماَذَا أَهرقْتُ كَأسَ ظَمَئِي
وَأغَلقتُ فَمَ البَحرِ وَجَلستُ بِمفرَدِي
أَحتسِي رَمادَ عَطَشِي؟ …(19), حسن الطائي, ص 39, 40)
وبدأ المقطع الثالث بنفس اللَّازمة التكرارية المصاحبة للاستفهام بماذا الخروج من النهر فيقول:
لَا أَدرِي لِمَاذَا أَنَا الخُارجُ مِنَ النَّهرِ
بَينمَا يَدخلُ الآخرونً؟…(20), حسن الطائي, ص 41)
وأمَّا المقطع الرابع الذي تسائل فيه الشاعر نافياً الدِّرايةَ بأداتي استفهام مزدوجتين باستدراج مستقبله والذي يغادر فيه بحر ظلماته, فيقول في رسم تكراراته التجريدية بلغة العارف المستنكر:
لَا أَدرِي…مَتَى وَكَيفَ سَنستدرِجُ المُستقبَلَ
وَنُغادِرُ بَحرَ الظُّلماتِ؟
فَنحنُ وَاضحونَ أَمامَ غَيرنَا غَامِضونَ أَمامَنَا
وَلَا نَرضَي بِالنِّصفِ أَو مَا شَابَهُ(21), حسن الطائي, ص 42, 43)
وختم المقطع الخامس بتجريده التكراري لتقوية المعنى ونزع الشكِّ من نفس المتلقِّي للدلالة على نظافة النفوس الوضاءة قبل نظافة الشكول من الأخطاء وأدران سخائم الماضي القديم قائلاً فيه:
لَا أَدرِي: مَتَى سَنَسكبُ المَاءَ
فَوقَ جِراحَنَا المَالحةِ ؟!(22), حسن الطائي, ص 43)
والملا حظ على المقطع التكراري الرابع قد اختلفت فيه لازمة الاستفهام من(لماذا) إلى(مَتَى وكيفَ) لغرض توكيد الاستفهام وإقراره وتثبيته للسامع. في الوقت نفسه حافظ فيه الشاعر على ديمومة الاستمرار بالأفعال المضارع ومجيئها بعد أداة الاستفهام.
فقد جاء الفعل الأول(خَرجتُ) من المقطع الأول للدلالة على الأنا الشاعرية المتحررة, وجاء الفعل الثاني(أهرقتُ) من المقطع الثاني للدلالة على ضمير الفاعلية المستتر(أنا), في حين جاء الفعل الثالث من المقطع الثالث (خَارجٌ) بصيغته المصدرية مسبوق بالضمير الظاهر (أنا) لتقوية المعنى وتأكيده في القصيدة. وجاء الفعل الرابع (سَنتدرجُ) من المقطع الرابع للدلالة على ضمير الإضمار(نحن) الجمعي, وجاء مبدوءاً بسين تسويف المستقبل القريب والذي سبقته أداتا الاستفهام (متى وكيفَ) للدلالة على توكيد الاستفهام كما مرَّ بنا. وأمَّا الفعل الخامس من المقطع الخامس فهو الفعل المستقبلي(سَنسكبُ) للتسويف المضمر بضمير الاستتار الجمعي(نحن) الدال على معناه.
كلُّ هذه التكرارات التجريدية المتقنة بتقنيات حداثوية التي وظَّفتْ بها القصيدة(لا أدري) يبحث فيها الشاعر عن إجابات واقعية لنوازعه الفكرية والجمالية التي اختطتها يده بهذه التشكُّلات الصورية التراتبية المجردة. وكعادته حسن الطائي ختم قصيدته بفراغات التواصل الفكري معه. وبهذه الروح الفنيَّة والجمالية التي أسهمت كثيراً من خلال تردُّدات جملها التكرارية(لا أدري) الأنوية بتفعيل المشهد الصوري وإعطائه أهميةً إبداعية وجمالية كبيرة في الديوان الشعري.
وفي قصيدته(هَكذَا بَدَأتُ) يُكثِرُ الطائي تكرار مفردة(مِثلُ) أربع مرِّات يتواتر فيها متماهياً في تشبيهات صوره التجريدية الجمالية مع عناصر الطبيعة الكونية البديعة. فالمقطع الأول يقول فيه: مِثلُ زَهرةٍ أثقلتْهَا قَطرةُ نَدىً مُشاغِبةٌ(23),ص 27). وفي المقطع الثاني يقول: وَمِثلُ شَمسٍ اِختطتْ خُيوطَهَا فَقرَّرتْ أَنْ تَتوارَى(24),ص 27). وفي المقطع الثالث يقول: مِثُل عُصفورٍ اِحتفلَ بِذكرَى طَيرانِهِ الأولِ(25), ص 27). وفي المقطع الرابع يقول: وَمِثلُ لَيلٍ قَديمٍ أَوغلَ فِي التَّغاضِي عَنْ قَلقهِ الَّذي يَتلبِسَهُ (26), ص28).وينهي الطائي بداية حياته بختامه التالي: هَكذَا بَدأتْ أَحلامُنَا بِالتداعِي ..(27), حسن الطائي,ص28).فختامُ القصيدة يؤكد ثبات بدايات مستهل مطلعها مع كل لازمة لـ(مِثلُ).
ومن لوافت النظر على مَسارَي شعريَّة التجريب والتجريد الفنِّي التعبيري أنَّ الشاعر قد يجمع في القصيدة الواحدة ذات المقاطع الشعرية المتعددة بين تقنيتي التعبير التجريبي والتجريدي لاستكمال لوحة الفنيَّة وفق ما تتطلَّبه لوحته الشعريَّة من ألوان التجريب الحسِّي المباشر أو التجريد الانحرافي غير المباشر الذي يستهوي مخيلة القارئ في آليات القراءة وجماليات التلقي المعرفي.
ولا أدلَّ على ذلك الجمع بين الاتجاهين المباشر وغير المباشر في التعبير نجده ماثلاً في نماذج كثيرة من شعره التي يراوح بها أسلوبياً مثل قصائده الأخرى في الديوان,(حدائق, واعتبار, ولم يفْت الأوان بعد, ومجرد رمل, وجمالك يؤكِّد شخصيته, حُرَّاس شخصيون, ولم نعد كما كنَّا, والهزيع الأخير, هكذا بدأتُ, ونهرٌ مترعٌ بالطيورِ, وَلَمْ يكنْ عليهِ), وغيرها من قصائده الكثيرة:
فِي كُلِّ مَرَّةٍ اَحترقُ فِيهَا اَنهضُ مُجدَّدًا
مُتكِئَاً عَلَى مَا فِي دَاخلِي مِنْ يَنابيعَ
فَأَنَا لَستُ مُجردَ شَخصٍ
أَنَا عَالَم قَائمِ بذاته, لَمْ تَتعطَّلْ قَاعدةُ بِياناتُهُ
وَلَم تُصبْ خُيوطُ قَلبهِ بِالاهتِرَاءِ(28), حسن الطائي, ص29)
حسن عاتي الطائي شاعر عراقي سومري مُجدِّدٌ لم يَعدْ شاعرَ قصيدةِ نثر فحسب, بل كان شاعراً مُتمكِّناً ومثابراً جداً يُجيد لغة التوظيف الشعري لقصيدة التراث العمودية بامتيازٍ خاصٍ, ويمكن عدَّه في هذا التمايز الفنِّي الإبداعي شاخصاً جماليَّاً مميزاً في أسلوبية التجريب والتجريد الفنِّي التعبيري, وإضافةً نوعية ماتعةً لفنِّ الشِّعريَّة العربية عامَّةً والعراقية على وجه الخصوص.
هوامش الدراسة
1- أدونيس: زمن الشعر, دار الصافي, بيروت, ط 6, 2005م, ص 355 .
2- د. محمد صالح الشنطي:: النقد الأدبي المعاصر في المملكة العربية السعودية, دار الأندلس, حائل, ط 1, 2004م, ص 978.
3 – حسين جمعة: قضايا الإبداع الفنِّي, دار الآداب, بيروت, ط 1, 1992م,. ص86.
4- ص( 35), 5- ص(82 ), 6- ص(7), 7- ص( 49), 8- ص(61), 9- ص(91, 92), 10- ص(89), 11- ص (70), حسن عاتي الطائي: ببطء مثل برقٍ, دار الرفاه للطباعة والنشر, بغداد, ط 1, 2020م.
12- يُنظرُ: ميشان أوتان: سيميائية القراءة, ضمن آفاق التناصية المفهوم والمنظور, ترجمة: محمد خيري البقاعي, الهيئة المصرية للكتاب, القاهرة, 1998م, ص 116.
13- ص( 72), 14- ص(85, 86 ), 15- ص( 44), 16- ص(11, 12), 17- ص(20), 18- ص(39), 19- ص( 39, 40), 20- ص(41), 21- ص(42, 43 ), 22- ص(43), 23- ص(27), 24- ص(27), 25- ص(27), 26- ص(28), 27- ص(28), 28- ص(29), حسن عاتي الطائي: ببطء مثل برقٍ, دار الرفاه للطباعة والنشر, بغداد, ط 1, 2020م.
المصادر والمراجع
1-أدونيس: زمن الشعر, دار الصافي, بيروت, ط 6, 2005م.
2-حسن عاتي الطائي: بِبطءٍ مِثلُ بَرْقٍ, دار الرفاه للطباعة والنشر, بغداد, ط1, 2020م.
3-حسين جمعة: قضايا الإبداع الفنِّي, دار الآداب, بيروت, ط ,1992م.
4- د. محمَّد صالح الشَّنطي: النقد الأدبي المعاصر في المملكة العربية السعودية, دار الأندلس, حائل, ط 1, 2004م.
5-ميشان أوتان: سيمائية القراءة, ضمن آفاق التناصية المفهوم والمنظور, ترجمة: محمَّد خيري البقاعي, الهيئة المصرية للكتاب, القاهرة, 1998م.