يغلبُ الظنُّ([1])؛ بكثيرٍ من الثِّقَةِ، أنَّ الخليلَ بن أحمد الفراهيديّ كان يقرأُ الشِّعرَ مُنشِدَاً إيَّاهُ، أي رافعاً بهِ صَوتَهُ، وهو يَعُدُّ حركاتِهِ وسكناتِهِ على أصابعِهِ، أو ينقرُ على آلةٍ ما دونَ أنْ يتخَلَّى عن ضبطِ الأعدادِ المُتواتِرَةِ. وبِعَدِّ النَّقراتِ توصَّلَ إلى بحورِهِ الخمسةَ عشرَ التي أقَرَّها([2]) لما بينها مِنَ الشَّبَهِ والاتِّساقِ والتَّناظُرِ، خاصَّةً التَّطابقَ العدديَّ للأزمنةِ. مِنْ ذلكَ مثلاً أنَّ بحورَ (الطويل- البسيط- المديد) تتألَّفُ مِنْ /24/ جزءاً -زمناً- في الشَّطرِ الواحدِ، ما يُساوي ثمانيةً وأربعين جزءاً- زمناً- للبيتِ الشِّعريِّ كلِّهِ. ولمَّا اتَّفقَ لهُ ذلكَ جمعَ البحورَ الثلاثةَ المذكورةَ في دائرةٍ واحدَةٍ سمَّاها دائرةَ المُختَلِفِ، كونَ وحداتِها مختلفةً عن بعضِها بعضاً.
ولكي يتأكَّدَ الخليلُ بن أحمد الفراهيديّ من ذلكَ فقد لجأَ إلى الدّائرةِ باعتبارِها أكملَ شكلٍ هَندَسِيٍّ، وعَدَّها النَموذَجَ الحيويَّ، الحَرَكيَّ، لتمثيلِ دورانِ الإيقاعِ، واستمرارِهِ، كونَهُ تواترَاً دَوريَّاً، ومُلتفَّاً- حلزونيَّاً- عبرَ سائرِ أبياتِ القصيدةِ. بلْ وعبرَ سائرِ أبياتِ الشِّعرِ المَدروسةِ بغضِّ النَّظرِ عن قوافيها وروِّيها. وبذلكَ يمكنُ- وببساطةٍ- رسمُ الحركاتِ والسّكناتِ- أي التَّواترَ الدَّوريَّ المُنتظَمِ- على محيطِ الدّائرةِ. ولعلَّ اختيارَ الخليلِ للدّائرةِ ينبعُ أيضاً من كونِها تتطابقُ انغلاقاً مع انغلاقِ البيتِ الشِّعريِّ على نفسِهِ بعدَ اكتمالِ جملتِهِ الإيقاعيَّةِ واللحنيَّةِ.
ومع أنَّ الخليلَ بن أحمد الفراهيديّ لم يُشِرْ إلى ما نخمِّنُهُ، ولا ذهبَ إليهِ أحدٌ بعدَهُ، فإنَّ اختيارَ الدّائرةِ لا يعني- أو يجبُ أنْ لا يعني- انقطاعَها عن تشكُّلِ حركةٍ حلزونيَّةٍ تقبلُ على الدّوامِ إضافاتٍ إيقاعيَّةً، الأمرُ الذي يكشفُ عن أنَّ التَّمثيلَ بالدّائرةِ كان- من جهتِهِ- لضبطِ الأزمنةِ وأعدادِها، ولتحديدِ الدَّورِ الإيقاعيِّ. ومن جهةٍ ثانيةٍ كان لا بدَّ لهذهِ الدّائرةِ من أنْ تنفتِحَ على شكلِ حلزونٍ تتوالى من خلالِهِ- وبهِ- سائرُ الأدوارِ الإيقاعيَّةِ حتَّى اكتمالِ القصيدةِ من حيث استكمالُ الموضوعِ برِمَّتِهِ.
لكنَّنا من جهةِ أخرى نرى- بحسبَ الواقعِ الشِّعريِّ المُتَعيِّنِ- أنَّ البيتَ الشِّعريَّ ينقفِلُ على ذاتِهِ بانقفالِ: عددِ أجزائِهِ، اكتمالِ إيقاعِهِ، باكتمالِ معناه.
وهذا يعني أنَّ الأبيات َ الأخرى تسيرُ على المنوالِ ذاتِه، ما يُفصِحُ عن أنَّ كلَّ بيتٍ يُشكِّلُ وحدةً كمِّيَّةً مستقلَّةً، مُكتفيةً بذاتِها، عمَّا يليها أو يسبقُها. فإذا ما تذكَّرنا أنَّ الخليلَ بن أحمد الفراهيديّ قد قسَّمَ سيرورةَ الإيقاعِ إلى وحداتٍ صغيرةٍ هي التّفاعيلُ لَحَصَلْنا على أنَّ البيتَ الشِّعريَّ مستقلٌّ كمِّيَّاً بنفسِهِ، ومُؤلَّفٌ من كمِّيَّاتٍ زمنيَّةٍ متعدِّدةٍ مضبوطةٍ. لذلك يمكنُ الادِّعاءُ أنَّ القصيدة َ مؤلَّفةٌ من كمِّياتٍ زمنيَّةٍ متعدِّدةٍ متواليةٍ- متكررةٍ- هي الأبياتُ التي تتألَّفُ- بدورِها- من وحداتٍ صغيرةٍ، متساويةٍ أو مختلفةٍ، هي التَّفاعيلُ. وبهذا الصَّنيعُ أمكنَ للخليلِ بن أحمد الفراهيديّ أنْ يضبطَ ويؤكِّدَ ما يلي:
أوَّلاً: إيقاعُ الشِّعرِ حركةٌ دوريَّةٌ، منغَلِقَةٌ والتفافيَّةٌ في آنٍ معاً على الدَّوام. وهذا ينسجمُ مع طبيعةِ الإيقاعِ الموسيقيِّ الالتفافيِّ، حيثُ لا يمكنُ تشكُّلُ جملةٍ لحنيَّةٍ مكتملةٍ إلا باكتمالِ الدَّورِ الإيقاعيِّ المؤلَّفِ من عدَّةِ موازينَ من جنسٍ واحدٍ، أو من جنسيْنِ مختلفيْنِ مثل: (٢/٤- ٣/٤- ٤/٤). واكتمالُ الدَّورِ الإيقاعيِّ يتضمنُ بالضرورةِ اكتمالَ الجملةِ اللحنيَّةِ المؤلَّفةِ من ركنيْنِ هامَّيْنِ رئيسيْنِ هما: (السؤال والجواب). وهذا يتطابقُ مع شطري البيتِ الشِّعريِّ اللذَيْنِ يُشكِّلانِ سؤالاً وجواباً، ليتحقَّقَ انغلاقُ اللحنِ باكتمالِ الدَّورِ الإيقاعيِّ.
وما يؤكِّدُ تلكَ المسألةَ أنَّ كلَّ جملةٍ لحنيَّةٍ مكتملةٍ قابلةٌ للتوقُّفِ بسببِ اكتمالِ مكوِّناتِ اللحنِ من التآلفِ والانسجامِ والتَّعبيرِ، لأنَّ الجوابَ([3]) الموسيقيَّ يتضمنُ في بنيتِهِ نغمةَ القرارِ([4]) المؤدِّيةِ إلى الانتهاءِ والتَّوقُّفِ. وكذلكَ الأمر في الجملةِ الموسيقيَّةِ الشِّعريَّةِ، حيثُ يتضمَّنُ الشَّطرُ الثّاني نغمةَ القرارِ متمثَّلةً بالقافيةِ من جهةٍ، وبحرفِ الرَّويِّ من جهةٍ أخرى، ما لم يتعلَّقِ البيتُ ببيتٍ آخرَ على التّضمينِ، ليتشكَّلَ من البيتيْنِ دورٌ إيقاعيٌّ واحدٌ، وجملةٌ لحنيَّةٌ واحدةٌ بالضَّرورةِ.
ولقد بيَّنَتْ مقطوعاتٌ موسيقيَّةٌ أنَّ بعضَ الجُمَلِ اللحنيَّةِ يتمُّ تعليقُ نهاياتِها بسببِ تضمينِ الجملةِ الثّانيةِ فيها، وهذا ما يحدثُ- أيضاً- في الشِّعرِ، ما يعني مثلاً أنَّ بيتيْنِ من البحر الطويلِ اعتراهُما (التَّضمينُ) يُشكِّلانِ جملةً لحنيَّةً واحدةً… يتكوَّنانِ- أو بالأحرى تتكوَّنُ الجملةُ- من جملةٍ إيقاعيَّةٍ مؤلَّفَةٍ من /48/ زمناً للبيتِ الواحدِ مضروبةً باثنيْن ليكونَ حاصلُ الجملةِ الإيقاعيَّةِ مؤلَّفَاً من /96/ زمناً هو زمنُ الجملةِ اللحنيَّةِ أيضاً.
ثانياً: إنَّ شعراً مؤلَّفَاً من أربعةٍ وعشرينَ جزءاً- زمناً- للشَّطرِ الواحدِ، تتكرَّرُ مرَّتيْنِ، مع اختلافِ وحداتِهِ- أي تفعيلاتِهِ- بينَ خماسيَّةٍ وسباعيَّةٍ مثل: (الطويل: فعولن مفاعيلن) و(المديد: فاعلاتن فاعلن) و(البسيط: مستفعلن فاعلن)، وهو من جنسٍ واحدٍ زمنيَّاً.
وعلى هذا فقد تمكَّنَ الخليلُ بن أحمد الفراهيديِّ من تصنيفِ بحورِهِ الخمسةَ عشرَ في خمسِ دوائرَ([5]) على النَّحوِ الآتي:
- الجمعُ بينَ ما كانَ مؤلَّفَاً من /24/ زمناً مكرَّرةً مرَّتيْنِ، ومركّباً من تفعيلتيْنِ مختلفيْنِ؛ خماسيَّةٍ وسباعيَّةٍ، يغلبُ فيهما الوتدُ المجموعُ.
- الجمعُ بينَ ما كانَ مؤلَّفَاً من /21/ زمناً مكرَّراً مرَّتيْنِ، ومركّباً من تفعيلةٍ سباعيّةٍ، يكثرُ فيها السببُ الثَّقيلُ أولُ الفاصلةِ الصغرى.
- الجمعُ بينَ ما كانَ مؤلَّفَاً من واحدٍ وعشرينَ زمناً، ومركّباً من تفعيلةٍ سباعيّةٍ تكثرُ فيها الأسبابُ، ومكرَّراً مرَّتيْنِ.
- الجمعُ بينَ ما كانَ مؤلَّفَاً من واحدٍ وعشرينَ زمناً، ومركّباً من تفعيلةٍ سباعيّةٍ مختلفةٍ، يغلبُ فيها (الجلْبُ)، أي الكثرةُ في اللغةِ، ويكثُرُ في تفاعيلِها الأسبابُ والأوتادُ، ومكرَّراً مرَّتيْنِ.
- الجمعُ بينَ ما كانَ مؤلَّفَاً من عشرينَ زمناً، ومركّباً من تفعيلةٍ خماسيَّةٍ عِمادُها الوتدُ المجموعُ، ومكرَّراً مرَّتيْنِ.
قد سمحَ هذا الإجراءُ فيما بعد بالتَّصنيفِ بحسبِ عددِ الأوتادِ والأسبابِ والفواصلِ مراعاةً للسُّرعةِ المُتصوَّرةِ ذهنيَّاً، وعلاقتها بهذهِ الأزمنةِ المتجاورةِ، من دونَ وضعِ ضابطٍ صارمٍ لطولِ الزَّمنِ، كما هو في الواقعِ المَادِّيِّ، والسَّاعةِ الميقاتِيَّةِ.
بل تُرِكَ ذلكَ لأسلوبِ الأداءِ التَّلفُّظيِّ وحرِّيَّةِ الشَّاعرِ، أو القارئِ المُنشِدِ، التَّعبيريَّةِ. وهذهِ مسألةٌ بالغةُ الأهمِّيَّةِ لحرِّيَّةِ التَّعبيرِ المجهورِ.
يلفتُ عملُ الخليلِ بن أحمدَ الفراهيديِّ النَّظرَ- ودونَ عناءٍ- إلى التَّصنيفِ الكمِّيِّ لعددِ التّفعيلاتِ في البيتِ الواحدِ من جهةٍ ولعددِ أجزائِهِ، أو أزمنتِهِ من جهةٍ أخرى. ولهذا صنَّفَ الباحثونَ المُحدثونَ العَروضَ الشِّعريَّ العربيَّ على أنَّهُ عروضٌ كمِّيٌّ!!.
* * * * *
([1]) قيلَ عن كيفيّة وضع الخليل بن حمد الفراهيديّ لعلمِ العروض أنَّه: (اعتزل النّاس في حجرةٍ له كان يقضي فيها السّاعاتِ والأيام يوقع بأصابعه ويحرّكها حتى حصرَ أوزان الشّعر العربيّ وضبط أحوال قافيته).
للبيان يُنظَر: العروض وإيقاع الشّعر العربيّ: الدكتور سيد البحراوي- ص١٥.
نقلاً عن: موسيقى الشّعر: إبراهيم أنيس- ط٣- ص٤٩.
وقيل: (وإنَّما اخترعه من ممرٍّ له بالصفارين، من وقع مطرقةٍ على طست).
للبيان يُنظَر: الدكتور سيد البحراوي- المرجع نفسه ص١٥.
نقلاً عن: وفيات الأعيان وإنباء أبناء الزّمان: ابن خلكان- تحقيق إحسان عبّاس- مج٢- ص٢٤٤-٢٤٨.
وقيلَ في روايةٍ ما نصّه: (يقول أبو بكر محمد القضاعي: تكاد تجزئة الخليل تكون مسموعةً من العرب، فإنّ أبا الحسن الأخفش روى عن الحسن بن يزيد أنَّه قال: سألتُ الخليل بن أحمد عن العروض، فقلتُ له: هلّا عرفْتَ لها أصلاً، قال: نعم، مررْتُ بالمدينةِ حاجّاً فبينما أنا في بعضِ طرقاتها، إذْ بصرْتُ بشيخٍ على بابٍ يعلّم غلاماً، وهو يقول له: قلْ:
نعم لا نعم لا لا نعم لا نعم نعم | ||
نعم لا نعم لا لا نعم لا نعم لا لا | ||
قال الخليل: فدنوتُ منه فسلّمتُ عليه، وقلتُ له: أيُّها الشّيخ، ما الذي تقوله لهذا الصّبي؟ فذكر أنَّ هذا العلم شيءٌ يتوارثُه هؤلاء الصّبية عن سلفِهم وهو علمٌ عندهم يُسمّى التّنعيم، لقولهم فيه نعم، قال الخليل: فحججْتُ، ثمَّ رجعتُ إلى المدينة فأحكمْتُها).
للبيان يُنظَر: الدكتور سيد البحراوي- المرجع نفسه ص١٦-١٧.
نقلً عن: الختام المفضوض عن خلاصة علم الفروض: أبو بكر محمد القضاعي- عن العلمي- ص٣٧.
([2]) وضع الخليل بن أحمد الفراهيدي، خمسة عشر وزناً سمّى كلّاً منها بحراً. ثمّ جاء تلميذه الأخفش، واستدرك عليه بحراً سُمّي المُحدَث أو المُتدارَك، فأصبح مجموع البحور ستة عشر بحراً.
للبيان يُنظر: بحور الشعر العربي عروض الخليل: الدكتور غازي يموت- المرجع نفسه- ص١٦.
([3]) الجواب في الموسيقى: هو أداء المنشد للجملة اللحنيّة من طبقةٍ صوتيةٍ عاليةٍ، أي بصوتٍ حادٍّ.
([4]) القرار في الموسيقى: هو أداء المنشد للجملة اللحنيّة من طبقةٍ صوتيةٍ منخفضةٍ، أي بصوتٍ غليظٍ.
([5]) هي: دائرة المُخْتَلِف- دائرة المُؤْتَلِف- دائرة المُجْتَلَب- دائرة المُشْتَبِه- دائرة المُتَّفِق.