قراءة الدكتور برهان خذابخش – عدن
لنص منيرة أحمد بعنوان لوحة فاشلة :
(الآن فقط تستطيع أن تسير ومعك أفكارك وأحلامك بعد أن تخلصت من قيود كانت تحاصر حركة أفكارك … خطواتك … لشدة إنسانيتك كنت أسيرها دون رغبة منك … هي تعرت من كل شيئ أمامك … كانت تبحث عن ماء طهور تتخلص فيه من أدران حياتها أفكارها .. ماضيها … مستقبلها ( هكذا اعتقدت) في كل مرة كانت معك اعتادت أن ترمي الكثير من عوالق عمرها في شارع عريض وترقب مرور العجلات تحولها إلى ذرات ( أيضا هكذا كانت تتخيل وتتمنى ) . تستلقي تتجول .. تتحدث .. تغني … تلهو .و بريق مختلف كان يلفها ويغلف الكون من حولها بغشاوة ,هي لا تدرك أنه السراب . رسمت لوحتها قبل أن تكتشف بأنها أيضا غبية جدا في الرسم أنا تماما فاشلة قالت لنفسها : لا تعرفين رسم أحمر الشفاه ولا تصفيف شعرك فكيف سترسمين الأحلام وتصففين أيامك القادمات ؟؟ مع ذلك عرضت لوحتها وانتظرت … انتظرت أن يأتيهاتعليق يصوب لها ما أخطات في رسمه أن يمسك بيدها لترسم وتنهي باتقان لوحتها … ما وصلها فقط رسائل بعضها مشفر وبعضها أرادت ألا تفهم .أظهرت غباء في قراءة الرسائل بل هي حقيقتها التي تجذر فيها الغباء بدرجة امتياز . بكت كثيرا في داخلها .. رشقت نفسها بكل الكلمات ال …. حاولت الابتعاد عن مأوى البشر لتصرخ وتركل نفسها وتبصق بوجه أفكارها وافعالها بصوت عال , لكنها فشلت مع ذلك استطاعت أن تقول وتفعل ذلك بداخلها مع ضرب مع بسياط قطعت روحها وقالب أحلامها . ووقفت بانتظار قطار يعبر فوقها يفتت بذرة أحلام قد تفكر في النمو داخلها . وتابعت لتختم رسالتها له آمنت بك كما يؤمن نبي بربه وحملت رسالتك لم أكن أدري أن مديتك التي قدمتها لي وأنت سعيدكانت لمزيد من جروح الروح لم أعد احتمل مزيدا منها فكلي جروح أرجوك كما ساعدتني للاقتراب منك والانغماس فيك ساعدني كي لا تراني أو تسمعني بعد اليوم .لا عليك لمزيد من احتراق يروي ظمأ الكثيرين المحتاجين لرائحة شواء لا محل لي في اعرابك قد تسمع عن كتلة رماد ما زالت تجوب الأماكن توزع رمادها على رأس نرجيلة في سهراتهم وهم يتفاخرون برائحة الفحم الفريدة والكل يلهث ليحصل عليه لا عليك سأمضي بقية رحلتي بقلب بلا نبض بجسد ملعون يحمل قمامته حتى نهاية طريق لا أظن نهايته بعيدة كن بألف خير دوما منيرة أحمد \ نفحات القلم سورية)
القراءة :
نص جميل جدا. مليء بالصور و التعابير السريالية.
يمتاز هذا النص بما يحمله من جمال في طوايا غموضه، الذي يتكشف شيئا فشيئا مع كل قراءة متجددة لينبعث مع توالي قراءته إبداع فني.
و نص الأديبة منيرة احمد هو في حقيقة الأمر صورة كبرى معطاءة تفيض بصور جزئية، و كل صورة بمثابة عضو حي في بنية تلك الصورة الكبرى ، و هذا الفيض من الصور الجزئية أجاز للكاتبة الانتقال من فكرة إلى أخرى على اساس الاحساس و الشعور النفسي :
الآن فقط تستطيع أن تسير
و معك افكارك و أحلامك
بعد أن تخلصت من قيود كانت تحاصر حركة افكارك…
……………………….
و لأن لا قيدا يكبل الافكار و حركتها، و لا رقابة تمارس على العقل، يتحول السرد الى هذيان ( فني ) متحديا مرجعية اللغة و نظام التفكير المنطقي:
هي تعرت من كل شيء أمامك.
كانت تبحث عن ماء طهور
تتخلص فيه من أردان حياتها..أفكارها..ماضيها .. مستقبلها( هكذا اعتقدت)
…………………….
إن حضور الآخر بصيغ مختلفة:
( معك ، أفكارك ، أحلامك، خطواتك، أمامك…..)
إضافة إلى استدعاء الأحداث الماضية :
( كنت اسيرها، تعرت ،كانت تبحث، رسمت ، قالت ، عرضت …..)
ساعد في الكشف عن صورة ( الأنا) بابعادها:
في كل مرة كانت معك
اعتادت أن ترمي الكثير
من عوالق عمرها في شارع عريض، و ترقب مرور العجلات تحولها ذرات……
………………….
كذلك، ساعدت مواجهة الأنا لذاتها في كشف المواقف الفكرية و النفسية للأنا، و نبش مناطق العتمة في قرار باطن وعيها:
رسمت لوحتها قبل أن
تكتشف بأنها أيضا غبية جدا في الرسم
أنا تماما فاشلة، قالت نفسها:
لا تعرفين رسم أحمر الشفاة
و لا تصفيف شعرك
فكيف سترسمين الأحلام
و تصففين أيامك القادمات….
…………………….
و لأن ( الأنا ) في لحظة مكاشفة و مواجهة مع ذاتها و نبش لقاع باطنها ، تبدأ اللغة بالتحرر من نظامها المألوف و تستعين اسلوب الإيحاء بالرمز كي تخلق لغة وجدانية تعبر عما يستعصى التعبير عنه، و هذا المنهج في التعبير ( التصوير ) يكاد يقترب من اسلوب الشعر الصوفي، حيث نرى في طوايا الحواس شعورا حيا و وجدانا تعود اليه ماديات الواقع المحسوس:
_ و وقفت بانتظار قطار يعبر
فوقها يفتت بذرة أحلام قد
تفكر في النمو داخلها…
……….
_ لا عليك لمزيد من احتراق
يروي ظمأ الكثيرين
المحتاجين لرائحة شواء
لا محل لي في اعرابك
قد تسمع عن كتلة رماد ما
مازالت تجوب الأماكن توزع رمادها…….
…………………
و لا مكان للريب في ان الأديبة منيرة احمد استطاعت باقتدار خيالها واتساق صوره و تآلفها، إضافة الى تنوع أساليب تعبيرها ان تبعث في نصها قوة و روحا .