“خطوط التماس” عبارة تفسر الجغرافيا المكانية حيث ترتسم الخريطة السياسية للعالم بحدود واضحة بين الدول ، هذه الحدود هي خطوط التماس ، فاذا ساءت العلاقات بين دولتين اشتعلت الحدود بينهما وتحولت الى خطوط تماس ساخنة تشهد اشتباكات بالأسلحة التقليدية المتوفرة ( الهند والصين ، ايران والعراق ، الجزائر والمغرب … ) وهذه الخطوط تختلف جذرياً عن حركات مقاومة الاحتلال لاستعادة الحق .
وهنا تبرز عدم صوابية “صامويل هنتنجتون ” في كتابه الشهير “صدام الحضارات” حيث لم يعد هناك أقاليم محددة بخطوط صارمة في الخارطة الحضارية للعالم ، في عصر يشهد ثورة المعلومات والتواصل الاجتماعي والتكنولوجيا المتقدمة جداً والتبادل الثقافي ، حيث تداخلت الحدود بين الحضارات، وتداخلت خطوط التماس بينها وكأنها تخطو نحو التجدد والتطور ، سواء كانت خطوط التماس الحضارية حسب تفاسيرهم ، (العولمة الحضارية ، او الهيمنة الحضارية ) ،
وبالنتيجة فإن ما تطرحه أحزاب اليمين المتطرفة في اسرائيل عن يهودية الدولة ، هو محصلة الخوف من ان خطوط التماس بين الحضارات تتداخل فيما بينها وكأنها تسير بخطى ثابتة نحو الذوبان ، ومُخالفة لمسار التاريخ الذي سجل أن كل عقائد العالم واديانه وحضاراته موجودة جنبا الى جنب .
وتصب في نفس التوجه للأسف تصريحات بايدن ، وفق ما نشرته صحيفة “نيويورك تايمز” بتقرير لكبير مراسليها في البيت الأبيض الشهر الماضي ، تناول فيه علاقات الرئيس جو بايدن الراسخة بإسرائيل و”شغفه الواضح بالدولة اليهودية” على مدار مسيرته المهنية الطويلة.
وقال المراسل بيتر بيكر إن دعم بايدن القوي لإسرائيل وقت الأزمات ليس بالظاهرة الجديدة، فالتضامن الوثيق الذي أبداه الأسابيع الثلاثة الماضية ، منذ هجوم ( كتائب القسام ) على إسرائيل، تعود جذوره إلى أكثر من نصف قرن من الانجذاب نحو “الدولة اليهودية” والذي اتسم بطابع شخصي للغاية .
وكان بايدن قد صرح خلال اجتماعه مع” لابيد ” ابان توليه الحكم عام 2021 أنه يرى “سلاما دائما يتم التوصل إليه عبر المفاوضات بين دولة إسرائيل والشعب الفلسطيني “.
وأضاف “يجب أن تظل إسرائيل دولة يهودية ديمقراطية مستقلة”.
وتابع في تناقض واضح “لا يزال حل دولتين لشعبين يعيشان جنباً إلى جنب في سلام وأمن هو أفضل السبل لتحقيق ذلك، فكلاهما لهما جذور عميقة وقديمة في هذه الأرض”.
في نفس السياق نستذكر تصريح نتنياهو عام 2019 والذي قال به بشكل وقح ” اسرائيل دولة ليست لكل مواطنيها ، هي دولة لليهود فقط “
لعل تلك التصريحات قد تطيح بحل الدولتين الى غياهب التاريخ ، فالخطير فيها انها تعني عرب 48 في الضفة الغربية ، وان ما قامت به اسرائيل بمنحهم الجنسية وجوازات السفر قد اضحى خلفنا وان يهودية الدولة تعني ترحيلهم عن اراضيهم في وقت ما ، بما يتناقض بعنجهية ووقاحة مع حل الدولتين ، ويشكل رافعة وركيزة أساسية لسياسة الفصل العنصري الذي تتباهى دول العالم بانتهائه في جنوب افريقيا ويتمادى الغرب في دعمه باسرائيل .
في المشهد الحالي والواقعي ، ثلاثة قد يغادرون المسرح السياسي على عجل عندما يتوقف هدير الطيران والقصف الوحشي ، وأيا كانت نتيجتها ، نتنياهو وبايدن وعباس…الأول؛ في انقلاب داخلي ، قد يحدث في أي وقت ليواجه المحاكم بتهمة التقصير إلى جانب تهم الفساد وسوء استخدام السلطة ، والثاني خلال الانتخابات الاميريكية العام القادم حيث تشير استطلاعات الرأي بذلك ، والثالث عبر صيغة قد تجعل رئاسته رمزية أو من خلال انتخابات تدفع بأحدهم بدعم من الداخل ، أو بآخر بدعم من الخارج .
سيناريوهات عديدة تشهدها الساحة الفلسطينية فليس ما بعد “طوفان الأقصى ” مثلما قبله ، من تلك السيناريوهات الاسرائيلية تفريغ غزة بالكامل من سكانها وتحويلها الى منطقة حرة دولية ، أو بشكل أكثر تفاؤلاً الابقاء على الثلث الجنوبي منها ( واضطرار السكان الى الانتقال الى العريش المصرية مع توفير ادارة مصرية لهم وهو ما ترفضه مصر حالياً ) بعد احتلال الشمالي منها وتحميله بقوات فصل دولية ، وبالتالي امكانية تمرير قناة بن غوريون بسهولة والسيطرة على النفط والغاز من سواحل غزة الغنية به حسب الدراسات والابحاث .
السيناريو الثاني احتلال غزة بالكامل وتفريغها من سكانها وبناء مستوطنات للاسرائيليين فيها .
السيناريو الثالث وهو الأقل احتمالاً ، الابقاء على المدنيين فيها وترحيل المقاتلين وبناء جدار الفصل التام مع طوق غزة ،
وثمة سيناريوهات اخرى قد تتطلبها مخارج الحل حسب الواقع الميداني والتطورات الدولية ، ( مأ زق اليوم التالي حال انتهاء الحرب ) .
جميع هذه السيناريوهات يجري العمل عليها سياسياً في الغرف المغلقة وسط أجواء الحرب الوحشية المستمرة دون اي ردود أفعال ايجابية تشير الى امكانية وقف آلة الحرب الاسرائيلية ( هدنة ووقف صوري في ظل الحصار الحديدي ) وصمت دولي مخزي ..
باستثناء الدعم الشعبي في دول عديدة من العالم والعواصم الغربية ، تنبؤ بتحول جاد في مواقف الشعوب مع فلسطين وشعبها وتنذر بتغيّيرات سياسية عميقة في الغرب لمساندة الشعب الفلسطيني وحقه في إقامة دولته على أرضه المحتلة عاصمتها القدس ، مما قد يفتح الابواب المغلقة باتجاه تسوية سياسية تفضي الى حل الدولتين اذا تم فرضه دولياً ( حملته سواعد المقاومين ) وإعادة المنطقة الى وضع الاستقرار للدفع باتجاه السلام العادل وتنفيذ القرارات الدولية ذات الشأن التي توافق عليها زعماء الدول الاسلامية والعربية في قمة الرياض هذا الشهر .
باعتقادي ستشهد المنطقة والعالم ، بعد انتهاء الحرب في غزة تبدلات جيوسياسية جوهرية ، تبعاً للاحداث الكبرى التي من نتائجها الطبيعية تحولات وتغييّرات عميقة ، قد تطيح بأحزاب سياسية ومنظمات اخرى في عالم النسيان ، كما ان البوصلة السياسية ستتحرك نحو ايجاد مخارج للازمات المتراكمة في المنطقة لتحقيق الاستقرار بعد الفوضى التي استثمرتها الادارات الامريكية لترسيخ سيطرتها عن بُعد الساعية لها ، بدل تدخلاتها المباشرة عن قُرب ، كل ذلك يحدث في ظل التقاعس الدولي والضغط على روسيا الاتحادية في الحرب الاوكرانية بغطاء امريكي – غربي واضح المعالم ، والعمل على تحييد الصين عبر مضيق تايوان والتلويح بالعقوبات الاقتصادية للمنافسة الاقتصادية بينها وبين الغرب ، مع تحفيز الهند ( المتعملق الجديد ) للتشبيك مع المشاريع الغربية بالتضاد مع تاريخها الأقرب الى الشرق ، ومع عودة تاريخية للقارة العجوز الى الحضن الامريكي بشكل أكثر حميمية انعكاساً للحرب الاوكرانية والخشية من عواقب أمنية وعسكرية واجتماعية واقتصادية قد تؤدي الى تفكيك الاتحاد الاوروبي وعودة العسكرة والتسليح لكل بلد منها وهو الظاهر حالياً في معظمها ، حيث كشفت الحرب عن ثغرات في بنية الأمن الأوروبي كنتيجة للسياسات الدفاعية التي تم تصميمها خلال الأعوام الثلاثين الماضية على افتراض استدامة السلم الأوروبي ، مما يدفع نحو إعادة تشكيل قاعدة التصنيع العسكري في أوروبا مع ما يرافق ذلك من تداعيات اقتصادية واجتماعية لتطوير منظومة الأمن الأوروبية .
لقد تغيرت الاستراتيجية الامريكية في السيطرة من سياسة القطب الواحد المتحكم في جميع القضايا الدولية ، ( الانسحاب من افغانستان ، الانقلابات في دول افريقية لانهاء الاستحواذ الفرنسي فيها ، وتقليص الامتدادات الروسية والصينية عليها ..)
في الوقت نفسه ، تشكل تلك السياسات المتسارعة نقطة انعطاف بشكل هائل في عملية تغير ميزان القوى على المستوى الدولي، وعملية تفكك المنظومة الإقليمية التي «استقرت» على أساس التوازنات الدولية الهشة ، الممتدة منذ تسعينيات القرن الماضي بعد تفكك الاتحاد السوفياتي وتربع الولايات المتحدة الامريكية على عرش القطب الواحد .
وبالتالي فإن المتغيرات والتحليل للسياسات الدولية والاقليمية والامريكية قد ينحو باتجاه سياسات امريكية بديلة تعتمد مشاركة الدول الكبرى في قيادة العالم ، ( بمثابة مجلس ادارة ترأسه امريكا) ،حيث شدد الرئيس بايدن خلال اجتماعه مع الرئيس الصيني الاسبوع الماضي ،
” على أن الولايات المتحدة والصين في منافسة وأشار إلى أن بلاده ستواصل الاستثمار في مصادر القوة الأمريكية في الداخل والتوافق مع الحلفاء والشركاء حول العالم. وشدد على أن الولايات المتحدة ستدافع دائما عن مصالحها وقيّمها وحلفائها وشركائها، وأعاد التأكيد على أن العالم يتوقع من الدولتين إدارة المنافسة بشكل مسؤول لمنعها من التحول إلى صراع أو مواجهة أو حرب باردة جديدة ” .
وقد تكون تلك السياسات تعويضاً وتجنيباً لهيئة الأمم المتحدة ( ورقية قراراتها وتقليص ميزانياتها ) التي تنادى العديد من دول العالم لتعديل ميثاقها ومنهم الاعضاء الدائمين في مجلس الأمن الدولي .
إن قواعد الاشتباك التي تحددها خطوط التماس عبر فائض القوة لدى المتجاورين ، قد ينقلب الى اشتباك مباشر وحرب مفتوحة عند المساس بالأمن القومي لإحداها والتدخل في شؤونها الداخلية ، والأمثلة عديدة عبر التاريخ القديم والمعاصر .. أما في حالة حرب غزة فإن الدعم الامريكي والغربي للكيان الصهيوني سياسياً وعسكرياً سواء بالمشاركة في الاعمال الحربية أو بالتهديد عبر استقدام البوارج وحاملات الطائرات لحماية اسرائيل ، فهو الدليل القاطع على انقلاب هذه المفاهيم في ظل انعدام للقيّم الانسانية والاخلاقية التي حددتها منظومة حقوق الانسان وحقه في العيش والحياة على أرضه بكرامة ودون تهجيره أو اجباره على مغادرتها ، وهذا سيؤثر بالتأكيد على تأرجح السلام والامن المستدام الاقليمي والدولي ، طالما استمرت السياسات الخشنة واللامتوازنة والبعيدة عن العدالة .
هل ثمة اعتدال ستشهده المنطقة بعيداً عن النزاع المستشري بين اليمين واليسار في منطقتنا والعالم ؟
باعتقادي ، أن مخارج الأزمات أضحت قاب قوسين وأن السبيل الوحيد للاستقرار والتنمية في منطقتنا والعديد من دول العالم ، هو إعادة الحقوق كاملة والتحول نحو الديموقراطية التشاركية وقبول الاختلاف في الرأي كممارسة لمفهوم المواطنة واحترامها لأنها عصب الدولة المدنية .
ولكن رغم كل هذا القلق والاحباط ، فإن الأمل مزروع في ضمائرنا ومتواجد في نفوسنا ، حيث جسدت عملية ” طوفان الأقصى ” قوارب النجاة للطامحين في الخروج من الأزمات و تحريك الملفات الشائكة وتحرير الأرض ، وتعزيز الاستقرار والسلام للعيش والحياة على هذه البقعة الاوسطية التي ارتوى ترابها بالدماء ، وحان الوقت لتعيش برغد وأمان .
ننهض من جديد ، هذه هي أبجدية الحياة وتراثها المتراكم عبر السنين ، فكم من الشعوب والممالك والامارات والكانتونات .. قد تعرضت للاحتلال والغصب عبر التاريخ ، بدواعي مختلفة ولأسباب جُلّها المطامع بالتوسع والسيطرة والنهب .. ولكن مهما كانت نتائج الحرب فإننا انتصرنا بالارادة العظيمة لدحر الاحتلال وهزيمته نفسياً وأمنياً واجتماعياً ، وإجباره على الهدنة وتبادل الأسرى .. والنصر قادم ، وكطائر الفينيق …
فلسطين تستفيق …
والى لقاء آخر ..
مهندس باسل كويفي