ديوان (حين يُسرَق الكَرى) … هو حديث بالغ في الرقّة والجمال لدفاتر أيامٍ حوت قصصَ عشقٍ لشاعرنا الكبير (البيضاني) ، وهي ترجمةٌ صادقة لوجدانٍ عاشَه حرفُه ، منذ نعومة أقلامهِ ، ولأضغاثٍ نكاد نجزم أنها قراءة لأسرارِ حزنٍ ووجعٍ جاءا من بوحٍ وصمتٍ ، وشكٍّ ويقينٍ ، ووجلٍ ، وبعضٍ من أملٍ ، وقد ترنّمَ فيها شاعرنا محوّماً مذ شبَّت الروح فيه ، ودِيفَ طينهُ ، ومذ عشِقَ فؤاده ، فأصابَه ذلك العشقُ وأتعبَه ، ومذ أشار بإصبعه نحو المحال وهو يدور في حلقةِ جمرٍ ورماد ، وعطرٍ وثمر ، ثم يعود ليبثّ شكواه بإسلوبِ صورةٍ تغايرت مع قرائنها ، وملامحَ اختلفت عن سابقاتها ، رسمَتها أنامله بحنايا مبتهلة ، ونخلٍ خميص ، ورافدينِ مستوحشين ، ورملٍ هو أقرب للجمر منه للتراب ، وقد ختمها بعواصفِ مشاعرهِ ، وأبرَّها بشجا لياليهِ ، واستوفاها بِكَراه ، وسلافةِ أقداحهِ ، وقذى عينيه ، وشيءٍ من رمَدٍ .
ذلك ما نراه ونلمحه في كأسه الخمرية الحجرية ، ونأنس به في هديل حمائمه الناعية ، ونلاحظه في جلابيب صباه ، ونتبيّنه في حسَكِ رياضهِ التي كانت مورقة ، وندركه في سغبٍ مازال يسامره ، ونَعيهِ في أنينِ ثكالى عند كل صباح ومسِيّة .
لقد نادى شاعرنا (البيضاني) جمهورَه بلغة الوجدان ، حتى بلغ الى مسمعه أنّ الدُّنا ألبَسَته كفنَه في غير موعده ، وأنّ مدنه لم تعد تألف الجذلَ والسرور ، وأنّ ذاك التصبر مازال يرتاده لاشتياقٍ ، بعدنأيٍ وفراق ، وأنّ ثمّةَ صباً ملوّعاً لم يعد يحتمله ، وأن ندىً عنده قد شح َّ ، ودمعاً لديه قد انهال ، ونوائبَ قد غدت نثاراً ، وظلماً أودى به ، وجوىً قد باعه واشتراه .
فأحالَ صورة تلك النفس العاشقة من جانب ، والمعذَّبة من جوانب اخرى الى صورة الحياة الصاخبة التي لا سكون فيها ولا هدأة ، فمزج فيها بين عالَمينِ اثنين ، بين عالَم الطيف الزاهي وعالم القلب المفتّت النازفةِ مهجتُهُ ، وبين عالم النجوى المريرة وعالم البوح بكل ما فيه من سرّ وعلَن ، وبين عالم الشعور النابض بما وراء الحسّ وعالم المراسيل والأمواج الهادرة ، وبين عالم النفس المطمئنة وعالم الروحِ اللاهية وقد تسربت إليها أسراب الهوى ونهبت خطاها ، وبين عالمٍ تمثلت فيه بقايا من أعمدة البخور وعالمٍ من منصاتٍ يقبع على قممها ألفُ متألِّه .
إن سَعة الأفق عند شاعرنا (البيضاني) نجدهُ بجلاءٍ غاصّاً بمعاني الغرام ، والإقتار ، والعلل ، والخَبَل ، والطرب ، والعتب ، والسُهد ، والكرى ، والفقد ، والشجن ، والكرب ، والوهن ، والعطر ، والعنبر ، والغسق ، والحبق ، والسلوى ، والحنين ، وإنْ اختلفت سماته ، وتفاوتت ألوانه ، لكنها تنبع جميعاً من لحمٍ وعصَبٍ ، ذلكما العنصران اللذان ما إن امتدّا ليشكّلاه ، حتى اشتركا في تكوينه سماءً في عيون عاشقيه ، وبحراً متلاطماً في خيالات مريديه ، ودمعاً لايكاد يتجاوز مقلتيه حتى أصبح سلوى لكليلات الوجوه ، وغائراتِ الأعين والمحاجر ، وشدواً للعنادل والسمّار ، وملاذاً للياسمين على الجدار ، ووجداً اذا افترق الخِلّان في ليلٍ ، وقد أضنتهم الذكريات ، وأعياهم الأرقُ ، فتدفّق لديه من ذلك كلّه الحسُّ الرهيف ، واللفظُ الطريف .
ثم يعود (البيضاني) ليلوذَ بلياقتهِ المعهودة ، ويكشفَ عن انصهاره الكلّي في فنجان قهوة مرّة ، فقد وصفَ الشقاءَ بما استقصته نفسه ، والرحيلَ بما وجده في عالمه ، واللّقيا بما رآه منزوعاً في وهْمِه ، والهمَّ بما ٱحتواه في جسدِه ، والأسى بما جاش في جمرِ شوقهِ ، فصار حلماً موءوداً لم يطِبْ لمعشوقِه ، ولا حتى ٱرتضاهُ لنفسهِ ، وإنْ أسهبَ في كلّ ذلك وأسرفَ .
وإذْ تمتّعَ شاعرنا بلذائذِ الوصال حيناً ، فقد ٱستدعى شبحَ الحرمان أحياناً كثاراً ، وجعلَه نصيباً آخرَ في تجربتهِ التي عاش فيها فصولاً لم يشاكِلْ أخوته في مثلها من الفصول ، في الأمزجة والنزَعات الحسيّة ، أو في المتعة والهناء بالحزن الذي اسقصاه من أوّله الى آخره ، حتّى عرج بمنعطف جديد يرى فيه السعادةَ بالشقاء ، واللذةَ بالوجع ، فخرجتْ كلّ تلك النفحات بعزاءِ موجِدٍ متوحّدٍ برجاءٍ وقورٍ ، وإلّا فكيف لعينٍ مقذّيةٍ أنْ تنام رغداً ، وكيف لها أن تضيقَ وتتّسع في هواجس شاعرنا ، وفصولُه تمرّ أمامه بتتابعٍ رتيب ، وتقتفي خطوَه في سبخِ عمره المجيد ، وتُفيقُ فيه أوجاعَ الذهول ، وقد اعترى أزاهيرَه الذبول ، إذ لا يوجَدُ متّسعٌ للضياء حين يطفئه النوى والرحيل ، ويتوارىٰ خلف سناهُ جراحٌ أدمتْها مخالبُ دعاةِ الوطنية وتجّارِ الدّين ، ودهرٌ طويلٌ ، وعتيد ، على قارعة التأريخ لوطن ذبيحٍ من الوريدالى الوريد .