مع انتهاء شهر صفر من كل عام هجري، تدب الأفراح لدى غالبية البيوت العراقية، وتبدأ الأعراس وتعم البهجة، حيث يقوم البعض مع آخر أيام الشهر بممارسة طقوس وتقاليد تبدو غريبة: منها تكسير بعض الأواني والزجاج، وطرق جدران المنازل بالأيدي وحرق المكانس اليدوية عند مقدمة المنازل والمحال التجارية، كعرف اعتاد عليه البعض منذ مئات السنين، ممن يعتقدون أن صفر من الأشهر التي يغيب فيها الحظ.
وينتهي شهر صفر مع يوم الثلاثاء والذي يوافق الثالث من سبتمبر/أيلول، لتبدأ ممارسة تلك الطقوس خاصة مع وقت الغروب، لطرد الشر وسوء الطالع حسب معتقدات بعض العراقيين.
وقد اعتادت السبعينية الحاجة أم زيد القيام بتكسير بعض الصحون الزجاجية، وحرق مكنسة المنزل المصنوعة يدويا، لطرد النحس الذي يرافق هذا الشهر حسب اعتقادها، وتقول إنها توارثت هذا العرف من أمها ومن قبلها جدتها.
تقول أم نت إن صفر يمر ثقيلا “وما أن ينجلي نتنفس الصعداء، ونعاود ممارسة حياتنا الطبيعية، ثم نحمد الله أنه مر بسلامة دون أن تقع أحزان، لذلك نمارس تلك الطقوس المتوارثة كتعبير عن الفرح واستقبال شهر ربيع الأول”.
بينما يستعد أبو مهدي (61 عاما) لزواج ابنه البكر مهدي ذي الـ27 عاما، مع إطلالة ربيع الأول، بعد مرور 3 أشهر من خطوبته وبعد أن تخرج في الجامعة وحصل على شهادة البكالوريوس في الآداب، لكنه لم يحصل على وظيفة، فاضطر للعمل سائق سيارة أجرة ليوفر متطلبات الزواج وما بعده.
ويقول المواطن للجزيرة نت إن إجراءات الزواج اكتملت ومنها الخطوبة وعقد القران والمهر و”كان في نيتنا إقامة حفل الزفاف قبل شهري محرم وصفر، لكننا تريثنا لأننا نعتقد أن الزفاف لا يمكن خلال الشهرين الحزينين وخاصة صفر، وفقا لما توارثناه من آبائنا وأجدادنا، وبعد أسبوعين من الآن سنباشر بحفل الزفاف على بركة الله”.
موغلة في القدم
وبخصوص ممارسة تلك الطقوس والعادات المتوارثة والمتعلقة بكسر الصحون والأواني، يوضح الإعلامي العراقي المتخصص بشؤون التراث محمد خليل التميمي أن عادة تكسير الأواني عند بعض العراقيين وأهل بغداد خصوصا من المعتقدات الشعبية ذات الأصول الموغلة في القدم، حيث يقال إن تلك العادات جاءت مع الأقوام الذين نزحوا من الجزيرة العربية إذ ارتبطت بيوم وفاة الرسول محمد (صلى الله عليه وسلم) إذ يؤكد الكثيرون أن الوفاة حصلت يوم 28 صفر، وبقي الناس يستبشرون بانتهاء صفر، ثم بقيت تلك العادات حتى أن بعض العراقيين كانوا وما زالوا يكسرون الأواني كتعبير عن انتهاء الشر والنحس وهم يقولون “راح صفر جاء الربيع يا محمد يا شفيع”.
ويبين التميمي أن غالبية العراقيين يقومون بكسر الأواني الفخارية التي لا يمكن استعادتها حالها حال المتوفي الذي لا يمكن له أن يعود للحياة، وذلك تفاديا لخسارة أي شيء عزيز، كما أن حرق المكانس يرد في ذات الاتجاه إذ كانوا يتطيرون من الكنس في صفر لئلا يُكنس عزيز على قلوبهم ويفارق الحياة، حسب معتقداتهم.
حياة معطلة
وعن اعتقادات بعض العراقيين وخاصة النساء حول صفر وماهية تلك الطقوس، يقول الباحث في الشأن التراثي العراقي صباح السعدي إن الحياة تبدو شبه معطلة في العراق خلال صفر طالما يعتقده الناس أنه شهر نحس، بما في ذلك عمليات بيع وشراء العقارات وحتى السيارات أحيانا لأنهم يعتقدونه فأل نحس، فضلا عن توقف الأعراس والأفراح، وهي جميعها عادات متوارثة منذ القدم.
ويبين السعدي وهو صاحب متحف أرض الرافدين في شارع المتنبي الثقافي وسط بغداد -للجزيرة نت- أنه مع نهاية صفر وخاصة وقت الغروب، تقوم معظم النساء وخاصة كبيرات السن بالطرق على الجدران في المنزل وهن يرددن عبارة “تطلع يا صفر” والبعض منهن يقمن برمي النقود من الفئات الصغيرة على الأرض ليلتقطها الأطفال كنذر أو تعبير عن قدوم الفرح مع ربيع الأول ومولد الرسول الأكرم عليه الصلاة والسلام، كما أن هناك من يضع مبلغا بسيطا تحت وسائد الأطفال، ونهاية صفر يدفعها إلى الفقراء والمحتاجين لدرء الخطر، منوها إلى أن ذلك جزء من الموروث الشعبي وليس من قبيل الدين، وهو واحد من العادات الموروثة مثلها مثل رش الماء خلف المسافر ليعود سالما، وهو تقليد أيضا بدأ من العصر السومري.
غزوات الجاهلية
وعن أصول تلك التقاليد ومصدرها، يبين الباحث المتخصص في تاريخ الأديان الشيخ عباس شمس الدين أن مصدر تلك التقاليد لا علاقة له بالدين أو المعتقدات، وإنما مصدره جاء من أن قبائل العرب قبل الإسلام كانت تنطلق فيه للغزو والسبي والاقتتال بعد انتهاء محرم الحرام وهو آخر شهور تحريم القتال مع ذي القعدة وذي الحجة، وبسبب خلو ديارهم من الرجال الذين خرجوا للقتال كان النساء والأطفال والعجزة يشعرون بالخوف والرعب طوال الشهر من هجمة من قبيلة أخرى، فلما ينتهي الشهر ويحين موعد رجوع المقاتلين إلى ديارهم يشعر هؤلاء بالفرح والفرج، ويمارسون تلك الأفعال التي تدل على ذهاب الشؤم، مشيرا إلى أن بعض هذه التقاليد مأخوذ من الأمم السابقة كالبابليين واليهود.
ويؤكد شمس الدين نه ليس في الإسلام أي رواية ولو ضعيفة تتحدث عن نحس شهر معين، ومن بينها صفر، ولا توجد أي تقاليد منسوبة للمدونات الإسلامية، فلا يوجد كسر للصحون أو حرق للمكانس، أو حتى شراء الذهب آخر أربعاء منه أو لبس العباءة بالمقلوب أو كراهة البيع والشراء وإتمام العقود والصفقات ولا أي شيء مما يفعله الناس.
والمحرم هو الشهر الأول من السنة القمرية أو التقويم الهجري يليه صفر ثم ربيع الأول فربيع الآخر، ومن بعده جُمادى الأولى ثم جُمادى الآخرة، ومن بعده رجب وشعبان ثم رمضان وشوال وذو القعدة وآخرها ذو الحجة.
ويقال إن صفر سمي بذلك لإصفار مكَّة من أهلها (أي خلّوها من أهلها) إذا سافروا فيه، وقيل: سَمَّوه صفراً لأنهم كانوا يغزون فيه القبائل فيتركون من لقوا صِفْراً من المتاع، أي يسلبونه متاعه فيصبح لا متاع له.