لم تكن مفاجأة إصدار رواية غير منشورة بشكل كامل للكاتب الكولومبي الشهير غابرييل غارسيا ماركيز (1927 – 2014)، لأن الكاتب سبق أن أعلن عن عمل روائي جديد في عام 1999، ثم نشر فصلاً منه في صحيفة “الباييس” الإسبانية في مايو/أيار عام 2003.
وقد ترجمه وقتذاك الكاتب العراقي نجم والي للعربية ونشره في صحيفة الحياة اللندنية، وبدا الأمر إعلانا رسميا للقرّاء، من كافة اللغات، بأن صاحب “الحب في زمن الكوليرا” (1985) يعمل على المراحل الأخيرة من رواية جديدة، وبالتالي لن تكون روايته “ذاكرة غانياتي الحزينات” هي العمل الروائي الأخير له.
ولكن وفاة ماركيز في عام 2014 بمرض الالتهاب الرئوي، ومضي أكثر من 10 سنوات على نشر فصلين فقط من مخطوطة الرواية تلك، جعل تصريح وكلائه بأن ماركيز أنهى “المسودة الخامسة والأخيرة من عمله الجديد”، مخيّبا لآمال محبيه الذين كانوا ينتظرون ذلك العمل بشغف كبير.
الورثة يتصارعون
ما زاد في خيبة أمل القراء، وجعلهم يتيقنون من أن العمل الجديد لماركيز لن يرى النور، هو صراع الورثة المستمر مع دور النشر ووكلائه، ففي أكثر من مناسبة نُشرت تصريحات بأن الورثة لن يسمحوا بنشر المخطوطة التي تركها ماركيز خلفه.
وما صدم القرّاء في أحد تصريحات الورثة، بأن سبب عدم نشر “موعدنا في شهر آب“، هو “لمصلحة غارسيا ماركيز نفسه، لأن العمل غير كامل وغير ناضج، وقد يُسيء لسمعة ماركيز وإرثه الأدبي!”.
ربّما هذا التصريح، وتكرار مسألة عدم اكتمال وعدم نضج المخطوطة حتى يتم نشرها، قد جعل هناك استعدادا سلبيا بعد نشر الرواية للعديد من النقّاد الذين صاروا يبحثون خلال قراءة صفحات الرواية القصيرة، أقل من 100 صفحة، بعد صدورها في أكثر من 30 لغة في عام 2024، عن الهنّات التي قد تدلّ على “خرف ماركيز الأدبي” أو تدخّلات ورثته ومحرري كتبه.
وعند العودة إلى تصريحات كريستوبال بيرا، مُحرّر هذه الرواية ومذكراته “عشتُ لأروي” (2002)، الذي تواصل معه ورثة ماركيز، ورأوا “ضرورة نشر رواية “موعدنا في شهر آب” في الذكرى العاشرة لرحيل صاحب الرواية العظيمة “مائة عام من العزلة” (1967)، نجد أن ماركيز ربّما تسرّع أصلاً في نشر روايته السابقة “ذاكرة غانياتي الحزينات”.
وقد كتب كريستوبال أن مونيكا ألونسو (سكرتيرة ماركيز الخاصة) عثرت أثناء تفقدها لأدراج المكتب على ملف يحوي مخطوطتين: الأولى تحمل عنوان “هي” والثانية عنوانها “موعدنا في شهر آب”.
ومنذ أغسطس/آب من عام 2002 وحتى يوليو/تموز من عام 2003 انكب ماركيز على العمل بكثافة في مخطوطة “هي”، التي تغير عنوانها، وقت نشرها في عام 2004، وأصبح “ذاكرة غانياتي الحزينات”. وهذا العمل كان آخر عمل إبداعي ينشره ماركيز وهو على قيد الحياة.
ربما كتب ماركيز رواية في جزأين، أولاهما بعنوان “هو” والتي تتحدث عن الحب والمغامرات في حياة رجل كبير في السن، وصدرت بعنوان “ذاكرة غانياتي الحزينات، وثانيها بعنوان “هي” تتحدث عن امرأة في خريف عمرها تقع في غراميات غير مُخطّط لها، وصدرت الآن بعنوان “موعدنا في شهر آب”
رواية واحدة أم اثنتان؟
ربما كتب ماركيز رواية في جزأين، أولاهما بعنوان “هو” والتي تتحدث عن الحب والمغامرات في حياة رجل كبير في السن، وصدرت بعنوان “ذاكرة غانياتي الحزينات، وثانيها بعنوان “هي” تتحدث عن امرأة في خريف عمرها تقع في غراميات غير مُخطّط لها، وصدرت الآن بعنوان “موعدنا في شهر آب”.
ليس ما يجمع بين هذه العملين هو فقط ذلك “الموضوع” الذي يتحدّث عن الحب والغراميات في خريف العمر، رغم اتساع الفارق بين عمر الرجل (90 عاما) في الرواية الأولى، وعمر المرأة (46 عاما)، في الرواية الثانية، بل ما يجمعهما هو لغة ماركيز المميزة، كعلامة فارقة تدلّ عليه، وسرده المتدفّق.
فلو أننا وضعنا الروايتين في كتاب واحد، وذلك ما لن يوافق عليه ماركيز أبدا، سيبدو الأمر مثل تشريح سرديّ للغرام والمغامرات الجسديّة والحسّية في خريف العمر لكلا الجنسين.
وهذا ما سيجعل الأمر برمّته مثل كتاب تحليليّ، وحتى مدرسيّ، أكثر منه كتابا سرديا، لموضوع تم تناوله في روايات كثيرة سابقة، وإن ليس بهذا التحديد، وربما هذا ما منع غارسيا ماركيز من نشر الروايتين في رواية واحدة.
وقارئ هذه الرواية “موعدنا في شهر آب” سيقع في نفس الصدمة التي صادفته عند قراءته لـ “ذاكرة غانياتي الحزينات”، التي صنفها العديد من النقّاد بأنها “أخفّ” أعمال ماركيز خلال حياته الأدبية.
وأولئك النقاد يتذكّرون جيدا بأنه لا يوجد طريقة واحدة كتب بها حامل جائزة نوبل للأدب في عام 1982 جميع أعماله السابقة. فهو كتب بطريقة بوليسية تشويقيّة، مثل “وقائع موت معلن” (1981)، وبطريقة واقعيّة، مثل “ليس للكولونيل من يكاتبه (1961) و”في ساعة نحس” (1962) و”جنازة الأم العظيمة (1962).
ما يجمع كل أعمال ماركيز هي لغة ماركيز، وجملته المليئة بالصور والعبارات التي تجعل القارئ يغرق في أعماله،
وقد جعلته هذه اللغة أحد أكبر روّاد الواقعية السحرية أو الغرائبية في العالم
وكتب بطريقة الملحميّة الشعريّة النثريّة، مثل “الجنرال في متاهته” (1989)، وبطريقة الواقعيّة السحرية، مثل “مائة عام من العزلة” و”الحب في زمن الكوليرا”… ولكن ما يجمع كل أعمال ماركيز هي لغة ماركيز، وجملته المليئة بالصور والعبارات التي تجعل القارئ يغرق في أعماله.
وقد جعلته هذه اللغة أحد أكبر روّاد الواقعية السحرية أو الغرائبية في العالم، رغم أن الكاتب المكسيكي خوان رولفو (1917 – 1986) صاحب الرواية العظيمة واليتيمة “بيدرو بارامو” يُعتبر -بها- أبا للواقعية السحرية التي وسمت، فيما بعد، كتابات كُتاب عديدين من أميركا اللاتينيّة، وثبّتتها كأحد أساليب الكتابة السرديّة.
في كل الأحوال يُعتبر صدور أو نشر أي شيء من كتابات غارسيا ماركيز، سواء أكان ذلك قصة أو رواية أو مقالة أو مقابلة غير منشورة، حدثا أدبيا في كل أنحاء العالم تقريبا، وسرعان ما يُرحب القرّاء والكتّاب ودور النشر حال صدوره، ويحتل مكانته في سلم أعلى الكتب مبيعا وقراءة
موعدنا في شهر آب
في كل الأحوال يُعتبر صدور أو نشر أي شيء من كتابات غارسيا ماركيز، سواء أكان ذلك قصة أو رواية أو مقالة أو مقابلة غير منشورة، حدثا أدبيا في كل أنحاء العالم تقريبا، وسرعان ما يُرحب القرّاء والكتّاب ودور النشر حال صدوره، ويحتل مكانته في سلم أعلى الكتب مبيعا وقراءة.
ويأتي إصدار روايته الأخيرة هذه، التي ترجمها إلى العربية المترجم السوري وضّاح محمود وصدرت عن دار التنوير، واختيار الذكرى العاشرة لرحيله كمناسبة حدثا احتفلت به تقريبا كل لغات العالم.
والرواية تتحدث عن “آنا مجدلين باخ” التي، ومنذ دفن جدتها في جزيرة بعيدة عن مكان سكنها وسكن جدتها، كانت تذهب في كل عام لزيارة قبر جدتها، ووضع باقة من الأزهار على قبرها، وتقع في علاقة غراميّة في كل مرة تذهب إلى هناك، وتكتشف في النهاية، أو تُخمّن، سبب طلب جدتها أن تُدفن في تلك الجزيرة البعيدة بالذات.
كانت آنا مجدلين باخ “تقوم بتلك الرحلة في الـ16 من شهر آب من كل عام، في الساعة نفسها، مستقلّة سيارة التاكسي نفسها، مارّة ببائعة الأزهار نفسها، وصولاً إلى المقبرة البائسة نفسها تحت الشمس الحارقة، وذلك لتضع باقة من الزنابق الطرية على قبر أمها. وبعد أن تُنهي مهمّتها لا يعود لديها ما تفعله حتى الساعة التاسعة من صباح اليوم التالي، موعد انطلاق العبّارة الأولى في رحلة الرجوع”.
الرواية تتناول 5 زيارات لقبر والدتها، وفي الزيارة الثالثة تقضي ليلة غرامية مع رجل لا تعرفه، بل ولا تعرف اسمه أو مكان إقامته، وفوق ذلك يترك لها، داخل رواية كانت جلبتها معها، ورقة 20 دولارا، فتشعر بإهانة بالغة.
وفي الزيارة الرابعة تقرّر، بعد إنهاء طقوس زيارة المقبرة، البحث عن ذلك الرجل، ربّما لترد عليه إهانته. وعندما لا تجده تجد شخصا آخر فتقضي ليلة غرامية معه. ولكن ستتعرف على الرجل من شاشات التلفزيون، لأنه قاتل خطير ومطلوب للعدالة.
خلال تلك الزيارات المتكررة في كل آب تتحطّم علاقتها مع زوجها، وهما اللذان عاشا 27 عاما من تجربة الحب والزواج الناجحة. فالرواية، رغم قصرها، تتحدث عن زوجها الموسيقيّ الشهير، وولديهما، ووالديها، وعن آنا وصديقاتها والجزيرة.
في الزيارة الأخيرة يحدث لها نفس الأمر، ولكنها تقرّر أن تعود برفات والدتها معها إلى البيت، لتدفنها في مقبرة قريبة من البيت، وبعيدة عن تلك الجزيرة، التي عاشت أمها فيها غراميّاتها السرية مع رجل آخر غير زوج.
ربما أخرجت، من القبر الذي في الجزيرة، ما تبقى من والدتها، لكي لا تعيش هي تجارب غيّرت ليس فقط حياتها الزوجية، بل غيّرت شخصيتها نفسها، ولكي تعود لبيتها وولديها وزوجها الذين لم يعلموا أيّ شيء عن غراميّاتها المرتجلة في تلك الجزيرة في كل عام تذهب فيه إلى ذلك المكان.
بعملها هذا، وهو نقل رفات والدتها وعدم وجود قبر لها في تلك الجزيرة، تقوم الابنة بتحطيم عنوان الرواية “موعدنا في شهر آب” والاستغناء نهائيا عن أداء دور أفرزته حياة وسيرة والدتها، ولم يكن بقرار شخصيّ منها، وبعد تلك الزيارة ما عاد هناك موعد في كل آب من كل عام.