مبحث من كتابي النقدي الجديد
تلاقي الأجناس الأدبية في القصيدة العربية المعاصرة
(إِرَم ذات العماد للسيّاب إنموذجاً)
في هذا البحث سأسلط الضوء على تداخل الأجناس الأدبية و تحديداً السرد القصصي للتاريخ في قصيدة ( إِرَم ذات العماد) من خلال الأنماط النوعيّة للقصّ السرديّ و تشكيلاته البنائيّة من أحداث و شخصيات و فضاء زماني و مكاني و تشابكها و مدى انعكاسها على التقنيات و إثراء النصّ و تعميق جمالياته و في الوقت ذاته بحثاً عن وعي الشّاعر للوجود و الأسئلة الّتي تصدر عن تشابكات الذات و الآخر و تدخلات النّصّ تناقضاته و تحولات أدوات التعبير و تقنياتها.
*السرد القصصي للتاريخ في ( إِرَم ذات العماد) :
شكّل التاريخ و التراث الديني في قصيدة إرم ذات العماد مركز جذب للشاعر بما قدّمه من امثولات وعِبر بهيئات سرديّة و مختزلة في حبكات لها أثر دلالي تعجز عنه المباشرة و التقريرية الغنائية الصارخة، فسرد الموروث الديني التاريخي نقل قصيدته من طابعها الذاتي إلى طابع إنساني فأصبحت تصويراً لتفاعل أحداث و شخصيات و حوار و فضاء، مما جعلها أقرب ما تكون إلى التشكيل السردي الحديث؛ فقد شكلت القصيدة نواة مركزيّة أعاد السيّاب بناءها، لنقرأ الرسالة الّتي أراد إيصالها من خلال الحكاية و السرد التراجيدي، حكاية الجد الّذي ظهرت له المدينة المسحورة ( المختفية) لكنه ضيّعَ الفرصة في لحظة ( وسن – نعاس) و حمّل أحفاده خلاصةَ تجربته رسالةً وهي : إن أتيتهم الفرصة ألّا يضيعوها في لحظة غفلة… و مغزى القصيدة :
إنّ الحياة تمنُّ على المرء بفرصةٍ واحدةٍ عليه ألّا يضيعها و ينشغل بأناه الذاتيّة؛ ليقتنصَ الفرصة في سبيل تعميم الفائدة على الجميع في سبيل الإنسانية من خلال الأنساق الآتية:
1.عتبة العنوان ( الميثة الأولى) :صدّرَ السيّاب قصيدته ( إِرَم ذات العماد) بعتبة نصيّة شارحة يقول فيها:
إنّ شدّاد بن عاد بنى جنّة لينافسَ بها جنة الله هي إرَم، و حين أهلك الله قوم عاد، اختفت إرَم و ظلت تطوف و هي مستورة في الأرض لا يراها إنسان إلا مرةً كلَّ أربعين عاماً، وسعيد من انفتح له بابها. ١
و عمد السيّاب في قصيدة إِرَم ذات العماد إلى السرد الحكائي مستعيراً أساليب السرد العربيّ الكلاسيكي ( السرد داخل السرد) على طريق تقنية /السارد- الراوي/وهو الحفيد الّذي يستعيد رواية جدّ أبيه للإشارة إلى قِدم المسرود و يكثفّ السيّاب السرد على لسان الجدّ الّذي كان صائد أسماك يتماهى مع أصوات المحار و الماء و يأتي صوت عنترة العبسي( توفي نحو 600م) ،يحرّضه على الرحلة في الصحراء:
و انفرجَ الغيمُ فلاحتْ نجمةٌ وحيده
ذكرت منها نجمتي البعيده
تنامُ فوق سطحها وتسمعُ الجرارْ
تنضحُ(يا وقْعَ حوافر على الدروبْ
في عالم النُعاس، ذاك عنتر يجوب
دجى الصحارى، إن حيّ عبلة المزار) 2
ويوردُ السارد ( الجد) شخصية سندباد و هو أحد شخصيات الليالي العربيّة البارزة و العجائبيّة في رحلاتها و تطوافها: بشغف السفر الّذي لا ينتهي:
وسرتُ حولَ سورها الطويلْ
أعدُّ بالخطى مداه مثلَ سندبادْ
يسير حول بيضة الرُّخّ ولا يكاد
يعودُ حيث ابتدأ /حتّى تغيب الشّمسُ
عشى نورَها سواءْ
حتّى بلغتُ في الجدار مُوْضعَ العماد
تقومُ فيه، كالدُّجى، بوابةٌ رهبه
غلّفها الحديد، مدحولها نحيبه
أراه بالعيون لا تحسّه المسامع ٣
لفظ العماد يوحي بالقوة و الصلابة و المتانة، و بقية المفردات تحمل القوة و الرهبة و الحزن، كما أن التراكيب الّلغويّة كلّ من موقعه العماد يقوم بذاته،و تعمل ضمائر الإحالة النّصيّة على الربط بين أجزاء المقطع فكلها تُحيل إلى البوابة ( العنصر الإشاري) مركز الدلالة فالبوابة رهيبة الظلمة كالدجى و الشاعر يعيد لنا صورة الظلام،
فهل هي ظلمة حقيقية أم ظلمة النفس؟
مع أن سور القلعة مضيء كالنجوم، و يغلفها الحديد رمز القوة و المنعة و القمع إنّها قوة رهيبة مخيفة يلفها النحيب، ذلك البكاء مع الأنين المستمرين يراه بعينه ولا يصل منه شيء إلى المسامع، و جعل الشاع خاصّية الحس للسمع فهو يستشعر ما في الوجوه الحزينة البائسة التي لا تقدر على إيصال صوتها لأسماع الأخرين مكتومة الأنفاس؛ فهي تُحسُّ و تُرى و تُسمع
وفي هذا المقطع تجلى المستوى الأول بالمجاز و المعلوماتية.
و يقف الشاعر ( المغامر) أمام البوابة العصية على الاقتحام وقوف السندباد أمام بيضة الرّخّ.. لكن السندباد وجد الحل ووظّف البيضة الأعجوبة لصالحه، بينما عجز السارد عن فتح بوابة القلعة/ الحلم…..
و للبحث تتمة
١. السيّاب،بدر شاكر، الأعمال الشّعريّة الكاملة، ص ٣١٥.
٢.المرجع السابق نفسه ٣١٧.
٣.المرجع السابق نفسه ص ٣١٨