لمعرفة فيما إذا كانت ما تُسمى " جامعة الدّول العربيَّة " هي حقاً منظمةٌ جامعةٌ
وعربيَّة فلا بُدَّ من معرفة الظروف المرافقة لنشأتها والطبيب الذي أجرى قيصريَّة
ولادتها ومعرفة هوية لجامها وأهداف وأطماع القبضة التي تُمسك بهذا اللجام منذ ولادة هذا
الطِّرحُ اللاَّعربي واللاَّجامع وحتى أيلولتها للسقوط أمام إرادة الشعوب العربية
التوّاقة للوحدة في وطنٍ جامعٍ مانع والتحرر من استعمارٍ جامحٍ طامع .
منذ أواخر القرن الثامن عشر وأمام أطماع الدول الأوروبية في العالم الإسلامي عامةً
والعالم العربي خاصةً وبعد حملة نابليون وما كان لها من أثر في صقل الفكر العربيّ فقد
تأكَّد بوضوح ضرورة الوحدة بين البلاد العربية لإمكان مواجهة الغرب المستعمر .
وقد ظهر في تلك الفترة تياران فكريّان أساسيّان ولكن مختلفان ، أحدهما يُؤيِّد الحركات
الإقليميَّة في كلِّ قطرٍ عربيّ ، والثاني يدعو لإقامة جامعةٍ إسلاميَّةٍ تحت زعامة
خليفة ، بغضّ النظر عن قوميَّة هذا الخليفة ، وكان من أعلام التيَّار الثَّاني الشيخ
محمد عبده وجمال الدين الأفغاني ، وقد أيَّد السلطان العثمانيّ عبد الحميد الذي تولّى
السلطة عام 1876 هذا التيَّار ليكون هو الخليفة ، وللأمانَّة فإنَّ حفيده أردوغان
ووفاءً منهُ للنهج العثماني في عثمنة العروبة والإسلام فقد ركب موجة ما يسمى ( بالربيع
العربي ) بقاربٍ إخوانيّ شبه إسلاميّ وبمجدافٍ صهيونيّ .
وفي نفس الفترة تقريباً ظهر تيَّارٌ عربيٌّ آخر ، وقد ظهرت عدَّة جمعيَّات مثل "
المُنتدى الأدبيّ " الذي كوَّنهُ سوريّون ولبنانيّون مسلمون ومسيحيّون على السواء ومثل
" حزب الامركزيَّة الإداريَّة " الذي ظهر في مصر والذي كان يطالب بالشخصيَّة
الذاتيَّة للعرب داخل الدَّولة العثمانيَّة ، غير أن أهم هذه الحركات كانت الدَّعوة
التي صاغها ودافع عنها المفكر العربيّ السوريّ الأصل عبد الرحمن الكواكبي في كتابه "
أمّ القرى " ومن ثم ظهور " الجمعيَّة السريَّة " في بيروت عام 1875 التي نادت
بالوحدة بين سوريا ولبنان في دولةٍ مستقلَّةٍ عن تركيا .
وقد أدركت الدُّول الاستعماريَّة خطر تنامي الفكر القوميّ الوحدويّ في المجتمعات
العربيَّة ولاسيما بعد انتهاء الحرب العالميَّة الأولى 1914-1919 ونشوب الحرب
العالميَّة الثانيَّة عام 1939 ، فقرَّرت هذه الدُّول ركوب موجة الثورات العربيَّة
وأمواج الفكر القوميّ العربيّ والإمساك بلجامه للسير حيث تقتضي مصالحها الاستعمارية ،
تماماً كما هو الحال مع الاستعمار الحديث وركوب موجة ما يُسمّى ( بالربيع العربيّ ) .
لذلك ومع نشوب الحرب العالميَّة الثانية بتاريخ 20/5/ 1941صدر تصريح باسم وزير
الخارجيَّة الألماني جاء فيه " لم يسبق لألمانيا أن احتّلت أي قطر عربيّ وليس لها
مطامع في الأراضي العربيّة ووجهة نظرها هي أن العرب الذين يملكون تراثاً ثقافيّاًً
قديماً والذين أثبتوا كفاءتهم ونضجهم في الإدارة والحرب جديرين بأن يحكموا أنفسهم
بأنفسهم وألمانيا تنظر بعين الاعتبار إلى الاستقلال الكامل للدُّول العربيَّة "
وقد صدر تصريح مماثل في نيسان 1942 عن وزير خارجيَّة إيطاليا في المذكرة التي أرسلها
إلى الحاج أمين الحسيني مفتي فلسطين وجاء في هذه المذكرة " إنَّني أريد أن أؤكّد لكم
الاتفاق التّام مع الحكومة الألمانية بشأن استقلال وحريَّة الأقطار العربيَّة التي
تعاني الضغط البريطاني وإن إيطاليا على استعداد تام لأن تُقدِّم للأقطار العربيَّة في
الشرق الأدنى كل مساعدة ممكنة من أجل تحرُّرهم واتّحادهم إن كان هذا الاتّحاد ممّا
يرغبون فيه "
وأمام هذه التأكيدات من دول المحور اضطرَّت الحكومة البريطانيَّة في سبيل الحفاظ على
أوضاعها في المنطقة العربيَّة وقطعاً للطريق أمام دول المحور إلى أن يُعلن وزير
خارجيَّتها السيد أنطوني آيدن في 24 شباط 1943 وخلال الحرب :
" إن بريطانيا تنظر بعين العطف إلى كل حركة تنشأ بين العرب بغرض دعم وحدتهم السياسيَّة
والاقتصاديَّة والثقافيَّة ، على أن يأتي ذلك من جانب العرب أنفسهم "
وكان ذلك مناخاً موافقاً لما تتوق إليه الشعوب العربيَّة من إقامة نوعٍ من الاتِّحاد
فيما بين دولهم انطلاقاً من فكرتهم القوميَّة ولإمكان مواجهة التحديات الخارجيَّة فكانت
ما تسمى " جامعة الدول العربية " التي دخل ميثاقها حيِّز التنفيذ في العاشر من شهر
إيَّار سنة 1945
ومما سبق يتضح لنا أنَّ ما يُسمى ( بالجامعة العربيَّة ) هي وليدة إرادة شعبيَّةٍ عربية
، ولكنها ومن حيث الميثاق والمبادئ والأهداف صناعة استعمارية أوروبية بشكل عام
واستعماريَّة بريطانية بشكل خاص .
مما تقدَّم يتَّضح أنَّ عرَّابُ هذه المنظمة اللاّجامعة واللاعربيَّة ومُولِّدها بعملية
قيصريةٍ بعد ست عشرة جلسة مشاورات هو المستعمر البريطانيّ وذلكَ بعد حقنها من قبل
المانيا وايطاليا بمُحرّضاتٍ على الولادة المُشوَّهة . وبالتالي يغدو جليّاً أنَّ هذا
المولود المُشوّه ليسَ عربيّاً .
كما أنَّه يُستدلّ على أنَّ هذا المولود مُفرّقاً وليسَ جامعاً من جملة المبادئ التي
أتى بها ميثاقُ الولادة ولاسيما المبدأ الثاني الذي تضمنته المادة السابعة منه والذي
يقضي باحترام "سيادة كلّ دولة من الدول الأعضاء " فهذا المبدأ يكرس الوضع العربي
القائم على التجزئة وبالتالي يشكل عقبة أمام الوحدة العربية
كما أنَّ هذه اللاّجامعة واللاّعربيَّة لم تكن لتشكل أيّ نواة لتوحيد الدول العربية بل
إنها وعلى العكس وبموجب الفقرة الثانية من المادة الثانية من ميثاقها أكّدت على أنّ
الغرض من إنشائها هو صون استقلال هذه الدول وسيادتها أيّ الإبقاء على الوطن العربيّ
مقسّماً إلى دول .
وأخيراً يُستدلُّ على أن لجام قيادة هذه اللاّجامعة واللاَّعربيَّة هو لجام شبهُ عربيّ
بقبضةٍ استعماريةٍ أوروبيةٍ أمريكيةٍ المنشأ صهيونية التوجّه والتوجيه من النظر إلى عقم
وفراغ القمم التي يُفترض أنها عربية من أيّ محتوى عربي قابل للتنفيذ ومن أيّ قرار ذي
آليَّة فاعلة للتطبيق وقادر على اختراق الجدار الاستعماري قديمه وحديثه وخصوصاً إن كانَ
جداراً صهيونياً ، ودليلُ ثانٍ يتمثَّل بعدم التّورّع وعدم التَّردّد في مخالفة ميثاق
هذه المنظمة الذي وقّعه ملوك ورؤساء لا يحترمون تواقيعهم و لا يملكون حق احترام هذه
التواقيع والويلُ والثبور منهم ومن أسيادهم لمن يحترم توقيعه . وأبرز هذه المخالفات
القديمة والجديدة يتمثل في عدم التزام موجبات توافر إجماع الدول الأعضاء في قبول دولة
طالة للعضوية وفي وقف أو فصل عضو قائم ولو كان عضواً مؤسساً وبسببٍ وبلا سبب بل يكفي
ايعاز الكيان الصهيوني إلى السيد الأمريكي وتوابعه ليتخذ ملوك شطرنج المنظمة اللاعربية
واللاجامعة القرار المطلوب منهم حتى ولو قضى هذا القرار بخلع العرب من عروبتهم ،
ودليلٌ ثالث وليس أخير يتمثَّل بشراء ما يسمى ( أمين عام ) للمنظمة كما اشترت مشيخات
وممالك النفط اللانبيل واللاعربيّ وكذلك شراء ذمم بعض الحكام العرب للتخلي عن دورهم
برئاسة الجامعة واستضافة قممها كما فعلت وتفعل المشيخة القطريّة خلال فترة المؤامرة
الكونيَّة على سوريا . وحيثُ يتبيَّنَ لنا وكما يتضح للقاصي والداني أنَّ هذه المنظمة
المُسمَّاة ( بالجامعة العربيَّة ) ليست جامعةً وليست عربيَّة ، فضلاً عن إمساك
المشيخات النفطيَّة – وبالوكالة عن الكيان الصهيوني – بلجامها والانحراف بها ليسَ إلى
تجزئة الوطن العربيّ وطمس هويته العربيّة فحسب ، بل إلى حيثُ تتحوَّل هذه المنظمة إلى
قاعدة استعماريَّة متقدّمة لأمريكا وللكيان الصهيونيّ ، فإنَّهُ والحالُ هذه يتوجَّب
على الدول العربيَّة التي تملك إرادة الوحدة ، وتحترم إرادة شعوبها بالوحدة والحريَّة
والسِّيادة ومناهضة الاستعمار بشكل عام والاحتلال الصهيوني بشكل خاص وفي مقدمة هذه
الدول سوريا بما تمثله من نظام سياسي عربي وحدوي أن تعلن انسحابها مما يسمى ( جامعة
الدول العربية ) وتتحرَّر من قيود هذه القاعدة الاستعمارية وتسعى وفي الحدّ الأدنى
لإقامة اتّحاد تعاهدي يكون بديلاً عن هذه المنظمة اللاّجامعة واللاّعربيَّة بحيثُ
يتضمَّن ميثاقه نصّاً صريحاً باعتبار هذا الاتّحاد خطوة أولى في طريق قيام الاتّحاد
الفعلي ومن ثمّ الوحدة أو الاتّحاد المركزي ! .
وللحديث تتمة في المقال القادم
المحامي منير العباس – أمين عام حزب التوحيد العربي الديمقراطي