تقف الولايات المتحدة أمام حرج استراتيجي في مواجهة التحديات التي يمثلها استمرار الحرب في سوريا … ويوصف الوضع في الولايات المتحدة «بلغة رقيقة» كأزمة انسانية خطيرة للغاية، حيث قتل أكثر من مائة الف نسمة ..وتشرد اكثر من 2 مليون لاجيء واضطر نحو 2.5 مليون مواطن الى النزوح عن اماكن سكناهم.
للولايات المتحدة وشركائها في الغرب أدوات وروافع محدودة للتأثير على ما يجري في سوريا، دون استخدام القوة العسكرية. ولكن الولايات المتحدة واوروبا غير معنيتين بتدخل عسكري اضافي في المنطقة، بعد التجربة في العراق وفي افغانستان. واضافة الى ذلك فان الساحة الدولية مشلولة وغير قادرة على اتخاذ القرارات، بسبب الفيتو المتوقع من مجلس الامن من جانب روسيا والصين. ويعتقد تقويم الوضع الامريكي للتدخل العسكري، المستند الى استخدام القوة الجوية فقط، باحتمالية عالية لفقدان السيطرة على الاحداث، التدهور لدرجة ارسال قوات برية الى سوريا، وهذا ما تخشاه واشنطن للغاية. ظاهرا، يمكن تأجيل القرار الصعب بالتدخل العسكري بناء على النهج القائل انه يوجد تآكل متبادل للعناصر المتطرفة التي تقاتل الواحدة الاخرى في سوريا، ايران وحزب الله مقابل محافل الجهاد – السلفي (مثل جبهة النصرة، فرع القاعدة)، دون قدرة على الحسم بينهما. المشكلة التي يقف امامها الرئيس اوباما، الذي يحاول الابتعاد عن مشاكل الشرق الاوسط، أو في اقصى الاحوال «القيادة من الخلف»، هي انه لا يستطيع الوقوف جانبا أمام مقتل المدنيين، نشوء مواجهة شيعية – سنية اقليمية ووضع تتعزز فيه العناصر المتطرفة وتركب موجة شبه النصر. وكلما استمر القتال لا يلوح في الافق لاعب مسيطر وجدير (في نظر الولايات المتحدة) يقود الصراع ويحكم في سوريا لاحقا ويحافظ على وحدتها واستقرارها. وبالتالي، فان السيناريو الاكثر معقولية هو الفوضى، تعزيز ميل التفكك الطائفي، مع صلات وأثار سلبية على الدول المجاورة لسوريا. وهذه تشكل عاملا آخر للحرج في واشنطن وفي العواصم الاوروبية وللقرار بالامتناع عن خطوات توجه اليها اصبع الاتهام والمسؤولية عن الفوضى «في اليوم التالي».
لقد برز عجز الولايات المتحدة اساسا بعد ان اختار الرئيس اوباما بعد الادعاء ان سورية تستخدم السلاح الكيميائي، الا يرد على "تجاوز الخط الاحمر"… كما أن القرار بتدريب وتسليح جماعات المعارضة السورية بصواريخ مضادة للدبابات وصواريخ كتف مضادة للطائرات، اتخذ بعد ترددات عديدة ولا يكفي لتغيير ميزان القوى داخل سوريا. ولتدفق السلاح بالذات آثار سلبية من حيث اطالة الصراع، تصعيدة وتشديده، تعزيز ميول الانقسام بين قوى المعارضة، وانتقال السلاح المتطور الى الجهاديين المتطرفين. كل هذا سيؤدي الى الفوضى وانعدام الاستقرار، حتى لو سقط النظام . في ضوء كل هذا، يبدو أنه لا توجد استراتيجية امريكية مبلورة لاحلال تغيير في سياق الحرب ولم تستوعب الاثار السلبية لانتصار المعسكر المتطرف او لترسخ عناصر الجهاد المتطرفة في سوريا. كما أن قرار الولايات المتحدة التوجه الى مؤتمر جنيف 2 في روسيا، دون مشاورات جدية مع حلفائها الاوروبيين، هو مؤشر آخر على ادارة الازمة انطلاقا من موقف ضعف ودون بدائل حقيقية للعمل.
المعاني الاستراتيجية لامتناع الولايات المتحدة عن التدخل العسكري في سوريا
ان الكشف عن الجدال الداخلي في المؤسسة الامريكية الرسمية، بين وزير الخارجية كيري، الذي أيد عملية جوية في سوريا وبين رئيس الاركان دمباسي الذي يخشى من آثار العملية العسكرية، ولا سيما التدهور الى تدخل عسكري أعمق مع الخسائر الكبيرة وتآكل القوات، يضيف الى الضرر اللاحق بصورة الولايات المتحدة كقوة عظمى. في ضوء فهم المعسكر الراديكالي بان الخيار العسكري الامريكي ليس على الطاولة ترتفع دافعيته لمواصلة المواجهة وابداء التصميم في ميدان المعركة في سوريا. والى جانب ذلك، يتعزز الموقف الروسي الذي يطرح شروطا ابتدائية صعبة للخطوة السياسية المتمثلة في مؤتمر جنيف 2 لوقف الحرب في سوريا.
اذا فحصنا الازمة في السياق الايراني الواسع، فان المعارضين للهجوم في سوريا يعتقدون بانه من الافضل أن تعد الولايات المتحدة وتحتفظ بالخيار العسكري لعملية في ايران، اذا ما فشلت المحادثات في موضوع النووي واخترقت ايران السبيل لتحقيق قدرة نووية عسكرية. بالمقابل، فان اولئك المؤيدين لهجوم امريكي في سوريا يقدرون بان عدم اظهار تصميم امريكي في سوريا، في مقابل التصميم الذي تبديه ايران وحزب الله، معناه تعزيز التقدير الايراني بالاحتمالية المتدنية للخيار العسكري الامريكي بالهجوم على البنية التحتية النووية في فيها، الامر الذي يجعل الولايات المتحدة تفقد رافعة ضغط هامة لاقناع ايران.
اما المعارضون للهجوم في سوريا فيطرحون ايضا موضوع الشرعية الدولية. فحتى لو كان مجلس الامن مشلولا بسبب الخوف من الفيتو الروسي والصيني، فان الولايات المتحدة يمكنها أن تعمل على اساس قانوني بناء على طلب المساعدة من جانب المعارضة، . امكانية اخرى هي الاستناد الى عقيدة التدخل بفعل المسؤولية عن الحماية للسكان غير المشركين، الذين يعانون من اضرار جسيمة. عملية في اطار ائتلاف يعزز مفعول عقيدة المسؤول عن الحماية مقارنة بخطوة امريكية احادية الجانب.
ما هو الخيار العسكري المعقول؟
عملية عسكرية، مع احتمال باسناد دولي واقليمي واسع، يفترض أن تخلق منطقة حظر طيران في سماء سوريا، لمنع استخدام القوات السورية للطائرات والمروحيات القتالية ضد قوات المعارضة . ولغرض تحقيق غاية منطقة الحظر الجوي، يوجد تحت تصرف الولايات المتحدة نهجان عملياتيان. الاول يقوم على اساس فكرة تحقيق تفوق جوي فوق سماء سوريا، حسب فكرة رئيس الاركان الجنرال دمبسي. ولهذا الغرض، مطلوب مئات الطلعات لهجمات مسبقة على بطاريات أرض – جو ورادارات الكشف. ويسمح التفوق الجوي للولايات المتحدة بشل فعالة المطارات في سوريا واجراء دوريات جوية فوق سماء سوريا، اعتراض كل طائرة ومروحية من القوات السورية تقلع على الجو بل ومنع المساعدة من الخارج (ولا سيما من ايران).
النهج الثاني يقوم على أساس هجوم مضاد لشل المطارات، التي تعمل منها الطائرات والمروحيات السورية دون الدخول الى سماء سوريا، بل بواسطة السلاح الموجه الدقيق، المطلق من مسافة بعيدة. بالتوازي، يمكن تنفيذ دوريات جوية فوق البحر المتوسط مع صواريخ جو – جو بعيدة المدى لاعتراض طائرات تدخل مناطق الحظر الجوي.
وفي النهجين ليست الولايات المتحدة ملزمة بالعمل من الدول المجاورة بل من البحر المتوسط، من حاملة الطائرات بل وبالطيران المباشر – مع تزويد بالوقود جوي، من قواعد امريكية في اوروبا. ويمكن للعملية الجوية أن تتم في ظل تقليص المخاطر والتهديد على الطارات الامريكية.
التوصية لبلورة ائتلاف منطقة حظر جوي من الدول المجاورة لسوريا بقيادة الولايات المتحدة
فكرة منطقة الحظر الجوي يمكن للولايات المتحدة أن تطورها الى مفهوم استراتيجي لتحالف اقليمي مقابل المعسكر الراديكالي وفي سياق فوري لما يجري في سوريا. اساس المفهوم هو بلورة ائتلاف (من غير الملزم أن يكون رسميا) لولايات المتحدة الى جانب الدول المجاورة لسوريا، تلك التي تخاف من الصلات السلبية (Spill Over) للاحداث في سوريا الى اراضيها وتتوقع عملية امريكية ناجعة وبالقوة ضد القوات السورية . الفكرة هي أن تقود الولايات المتحدة مجموعة دول – ، تركيا واسرائيل (مع البقاء في الظل وبدون اعلان)، تشارك الى جانبها في اقامة منطقة حظر الطيران، كل واحدة بجوار حدودها مع سوريا، ان لم يكن عمليا فعلى الاقل بدعم سياسي وعملياتي وكذا في انتشار بطاريات باتريوت في نطاقها (الامر الذي تم فعلا). ويذكر أنه كانت دلائل على تنسيق بين الدول الاربعة في بلورة الرد على سيناريو التدهور في استخدام السلاح الكيميائي في سوريا. ومن خلال خلق حزام اقليمي فاصل (Buffer Zone) على طول الحدود السورية مع الاردن، "اسرائيل" ، تركيا بل ولبنان. ويمكن لهذه المناطق أن يفر مواطنون سوريون ويكون ممكنا اقامة بنية تحتية للمساعدة الانسانية. الحزام الفاصل يستخدم ايضا لمنع انتقال عناصر متطرفة من المعسكرين الى الدول المجاورة.
وبالتالي ستنشأ العلاقة المشتركة بين الدول المشاركة في منع انتقال الاحداث الى اراضيها وبين المسؤولية لحماية المدنيين السوريين. معقول الافتراض بان هذا الائتلاف سيحظى بدعم السعودية والامارات وبهذه الطريقة يتكون ائتلاف من الولايات المتحدة والمعسكر «المعتدل» ضد المعسكر "الهدف" . ويسمح هذا الائتلاف ايضا بالمشاركة في مبادرات سياسية، ويبني امكانية كامنة ليس فقط لتغيير ميزان القوى القتالي داخل سوريا بل وتغيير اوسع واساسه عزل ايران وحزب الله لدرجة ردع ايران من خلال بلورة ائتلاف مشابه في الموضوع النووي.
المصدر: الرأي