تتخبط الحكومة اللبنانية منذ وقت ليس بقصير في أزماتها ومشكلاتها العادية والمفتعلة، والتي تبدو في كثير من الأحيان خارج سياق وإطار الزمن اللبناني وتفاعلاته، وقد ترافقت تلك المشكلات مع تكليف رئيس الحكومة نجيب ميقاتي وتسميته رئيساً للوزراء مع اندلاع الأحداث في سورية، وعدم وضوح الرؤية في مسار الأمور، الأمر الذي انعكس على الداخل اللبناني، فبات اللبنانيون يعيشون على وقع التطورات السورية، والظروف الإقليمية والدولية المرتبطة بها.
رافق الأزمة السورية لبنانياً اختلاق الرئيس المكلف عُقداً حول التوزير، انتهت بحلّ "تنازلي" عن أحد وزراء الطائفة الشيعية، ثم تدرجت من افتعال مشكلة حول جدول الأعمال، الذي هدد رئيس الوزراء بأنه لن يقبل بإدراج أي بند عليه لا يكون هو موافق عليه، وكأن الحكومة "مجلس إدارة شركة" يملكها، ثم التضييق وعرقلة كل مشروع يتقدم به وزراء تكتل التغيير والإصلاح، ومنها على سبيل المثال لا الحصر، عرقلة مشروع الكهرباء، ومحاولة فرض "وصاية" على الوزير، وتكبيل يديه، وصولاً إلى مشروع "جنرال الكتريك" الوهمي، والذي تمّ تسويقه على أنه "عرض" رسمي، ليتبين فيما بعد أنه مجرد رسالة وصلت إلى رئيس الحكومة عبر بريده الإلكتروني من قبل أحد أصدقائه القدامى، فقام بطبعها وتوزيعها على مجلس الوزراء، والظهور بعدها إعلامياً كالذي يريد أن يحافظ على المال العام، بينما يقوم الآخرون بعرقلته.
بلا شك، تترابط القضايا اللبنانية ومشكلات الحكومة اللبنانية بالصراع الدائر في سورية منذ ما يزيد على سنة تقريباً، فكلما بانت بوادر "إحراج" النظام السوري دبلوماسياً أو سياسياً أو ميدانياً، ارتفعت وتيرة المشكلات المفتعلة لبنانياً، سواء داخل الحكومة أو خارجها.
وانطلاقاً من ذلك، فإن النتائج المحققة في المعركة السورية اليوم، والتي يمكن لها أن تعطينا فكرة عما ينتظر اللبنانيين في أداء حكومتهم وأداء الفريق الشريك للأكثرية تبدو على الشكل الآتي:
–
اقتناع الفريق المعادي لسورية بأن استعمال القوة لإخضاع النظام السوري أو إزالته غير وارد، وأنه لا بديل عن الحل السلمي، وما المؤتمرات التي تقام والتصريحات العالية النبرة التي أُطلقت خلال مؤتمر اسطنبول، إلا لمحاولة رفع أسهم المعارضة الخارجية، والفريق الموالي للغرب، لتحصيل مكاسب على حساب معارضة الداخل، ولحجز مقعد لها على طاولة الحوار الداخلي، الذي سيفضي إلى حكومة وحدة وطنية، تتمثل فيها المعارضة الداخلية التي أثبتت ولاءها لسورية، ورفضت استباحة وطنها بالتدخل العسكري الخارجي وعسكرة الثورة.
– سيعمد النظام السوري إلى تظهير انتصاره، ويبدي استعداده للحل السلمي من منطلق الواثق بقدراته وباستقرار نظامه والتفاف الشعب حوله، لذا سيبدي مرونة في المواقف التي تؤدي إلى المصالحة، والسير في أسس العدالة الانتقالية في الداخل، بينما لن يتوانى عن ضرب بيد من حديد كل البؤر الأمنية التي ستظهر نتيجة للتحريض والتمويل الخليجي المستمر للحركات التخريبية.
أما بالنسبة إلى المواقف الدولية، فتبدو على الشكل الآتي:
أ- دول البريكس المنتصرة: ستستكمل توجهها نحو تكريس نظام عالمي جديد يرفض الهيمنة والتدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى، ويرفض الخيارات العسكرية، أو على الاقل يبقى يعتبرها ملاذاً أخيراً لحل الصراع؛ بتحمّل المجتمع الدولي مسؤولياته، بعد أن يكون قد استنفد كل الأطر السياسية والدبلوماسية، وذلك كما ينص مبدأ "السيادة كمسؤولية" المستحدث في القانون الدولي، والذي تمّ اعتماده وإقراره في نتائج القمة العالمية لعام 2005.
ب- الأميركيون: لن يظهروا التراجع الكامل والظهور بمظهر المنهزم، لأن في إظهار الهزيمة في سورية والمعركة التي افتعلوها في الشرق الأوسط، خسارة محتمة لأوباما في انتخاباته الرئاسية المقبلة، لذا سيتم استعمال مهمة أنان لإخفاء الهزيمة الأميركية، فليس من مصلحة أحد تظهير الهزيمة الأميركية بشكل يفضي إلى الإطاحة بأوباما، وقدوم ما يشبه "المحافظين الجدد" من جديد إلى السياسة الأميركية.
ج- أوروبا: يبدو الأوروبيون يوماً بعد يوم بمظهر الجالس في المقعد الخلفي في القطار الدولي، ويبرز بشكل واضح فشل الصقور منهم، وسير ساركوزي وفريقه نحو هزيمة انتخابية، يحاول تعويضها من خلال التضييق على الإسلاميين المتشددين في فرنسا، والنأي بالنفس عن سياسات القرضاوي وقطر.
د- الدول العربية: وقد بدأت بالاتصالات السرية للانفتاح على النظام السوري، ما سيعزل تدريجياً المحور السعودي – القطري الرافض للتسوية والحل السلمي في سورية.
ه- أما المحور المقاوم فسيحصد نتائج صموده، وقدرة حليفه على هزم المؤامرة، وسينعكس هذا الأمر بطبيعة الحال على لبنان، وستحصد إيران والمقاومة في لبنان نتائج الانتصار على المؤامرة في سورية، في ملفاتها الرئيسية، كالملف النووي الإيراني، وفي الصراع السياسي الدائر في لبنان اليوم بين أكثرية ينازعها السلطة شريك يريد إفشالها واستنزاف رصيدها الشعبي.
وعليه، وانطلاقاً من كل هذا الحراك الدولي والإقليمي، وبعد أن أسقطت سورية المؤامرة وبدأت تخرج من موقع الضعف إلى موقع الواثق المطمئن لمستقبلها ومستقبل حلفائها في لبنان، إننا نرى مستقبل العمل الحكومي اللبناني المقبل في طريقين:
– إما أن يقتنع الفريق المعرقل بأن استمراره في العرقلة واختلاق المشاكل سيجرّ عليه خسارة كبيرة، لأن موازين القوى تتجه بعكس صالحه، وعليه أن يقوم باستراتيجية تحديد الخسائر بتسهيل العمل الحكومي والسير بالإنتاجية وتسهيل أمور المواطنين.
– أو أن يكون الدور المنوط به والمطلوب منه لم ينتهِ بعد، وأن يكون مكلفاً بمحاولة إفشال الأكثرية، تمهيداً لخسارتها الانتخابات النيابية المقبلة، فيستمر بالعرقلة وتعطيل شؤون الناس.
لكن هذا الخيار وهذا الاستمرار ستكون لهما تداعياتهما الكارثية على كل من يمشي فيهما، لأن ما يمكن السكوت عنه الآن لن يتم السكوت عنه غداً، وسياسة "بلع الموس" التي تمارسها الأكثرية اليوم لن تستمر غداً، وسيكون الحساب عسيراً جداً.
– استاذة مادة العلاقات الدولية في الجامعة اللبنانية الدولية