– الجزء الثالث :
{{ اللَّبَخَةُ }}
تشير معاجم اللغة إلى لفظ ( لَبَّخ ) على انه تضعيف ( لبخ ) بمعنى لصق وألصق ؛ ولَبَّخ الورم : وضع عليه اللبخة .
ولَبَّخ : جسمه من الضرب وتلبّخ ، ازرقّ وظهرت عليه آثار الضرب .
وتعني كلمة لبخة في المدلول الشعبي : المَسطُول ، وهو الأبله أو المشدوه المحيّر .
و ( اللبخة ) عجينة من مواد خاصة ، تفرش أو تنشر بين طبقتين من قماش خفيف ، وتوضع على مكان محدد من الجسم ، لاحداث تأثير مهيج أو ملطف لهذا المكان ، وتوضع اللبخ ساخنة أو في درجة حرارة الجو .
و تستعمل عادة لمساعدة تصريف الالتهاب الحاد ، أو لمساعدة تجمع الصديد في الالتهابات ، وكذلك تستعمل لتخفيف الآلام في حالات الالتهابات المزمنة ، أو لتقليل الاحتقان من بعض الأعضاء الداخلية مثل الرئتين أو
الكليتين .
وتعد اللبخة من العلاجات الشعبية التي كانت منتشرة كثيراً في الماضي قبل اختراع البلسم والمراهم المختلفة الأصناف والمتعددة التسميات ، بعضها من جربها مرة ،
لا يعيدها بالمرة .
وكثيراً ما كان يصاب ابن خالة لي ، نلقبه بالشيطان الأزرق بدُمَّلٍ أو جرح مُتَقَيِّح ، فتعمد جدتي الحاجة ( جميلة ) هكذا اسمها وهي اسم على مسمى ، أو كما قال القائل : لكل إنسان من اسمه نصيب ، رحمها الله تعالى ، إلى بصلة يابسة تقشرها وتهرسها ثم تأخذ ماءَهَا فتعجن به قليلاً من الطحين ، وتحصل بذلك على عجينة بماء البصل ، كانت تأخذ منها قطعة صغيرة كل يوم ، وتمدها على قدر مساحة الدمل أو الجرح المتقيح ، وتطليها بقليل من زيت الزيتون لئلا تَلتَصقُ بالجلد ، ثم تضعها على الدّمّل أو الجرح ، وتُضَمِّدُها ، وكان ( الجني الأزرق ) يشفى سريعاً بهذا العلاج .
ولاريب أن جدتي ( جميلة – أم توفيق ) رحمها الله ، قد تفوقت على الكثيرات من الدايات ، والداية هي الظئر : الحاضنة ، وتُعرف بها التي تولّد الحامل ، أو المشتغلات بالقبالة والتمريض ، ويكنّ عادة من النساء الطيبات اللواتي يحفظن الأسرار ، ويحافظن على ثقة الناس على مدى الزمن .
ولعل جدتي تتفوق أيضاً على بعض أطباء هذا الزمان ، عندما كانت تَصنَعُ مَرهَماً من مَهرَوس الثُّوم مع قليلٍ من الشمع ، والفازلين ، وكنت أرى الجيران يقصدونها ليأخذوا قليلاً من لبخات مَرهَم الثوم هذا ، لمعالجة الجروح والقروح ، وكانوا يشفون بسرعة والحمد لله تعالى بفضل هذا المرهم العجيب ، و ” الدراهم كالمراهم حطها ع الجرح يطيب ” ، كما تقول جدتي الجميلة جميلة التي سرعان ما تستعيض عن هذا المثل بمثل آخر عندما يذكر أمامها ابن حارتنا الذي تقلد منصباً رفيعاً في الدولة ، فتقول : ” الدراهم مراهم تخلي للعويل – الوضيع – مقدار وبعد ما كان بكر يسموه الحاج بكار” وهي التي أشرفت على ولادته ورفضت أن تتقاضى من أهله فرنكاً واحداً ، حيث كل عملها لوجه الله .
أما سبب مضرب هذا المثل كما يقول أبناء الحارة ، ان مجموعة من رجال الحي شكلوا وفداً شعبياً وذهبوا إلى تهنئة ( بكر ) بمنصبه الجديد ، وفي طريقهم إليه كانوا يمشون كالطواويس ، ويا أرض اشتدي ما حدا قدي ؛ ابتهاجاً بابن حارتهم العتيد ، وهذا ما دفع بعض أبناء الحارات الأخرى لأن ينضموا لهذا الوفد العرمرم ، فيما تساءل قسم منهم عن آلية نقل ( نفوسه – خانته ) مكان قيد سجله المدني إلى حارتنا .
ولو قيض لفنان تشكيلي أو مصور بارع أن يشاهد هذا الوفد المصون ، كان سيحوز لا محالة على جائزة التراث الشعبي بسبب اللوحة الفلوكلورية التي من الصعوبة بمكان أن يجتمع بها الشروال مع الطقم الرسمي ، والقنباز مع ربطة العنق ، والعصا مع الطربوش الأحمر والقبعة الفرنسية والشماخ ، والسيدارة مع الكاسكيت ، ناهيك عن قبعات الكاوبوي ، والحذاء الشاموا مع شحاطة الكسر .
لم يطل الوقت كثيراً أمام وفد المهنئين حتى خرجت من مكتب سيادته ، سيدة أنيقة ، أغلقت الباب خلفها بإحكام ، وقالت بنزقٍ : بردون .. المسيو ….. يقول لكم سلامكم وصل ، بإمكانكم أن تعودوا إلى أعمالكم بسرعة ، ولا تنسوا أن تدونوا أسماؤكم وأنتم تخرجون من غير مطرود ، في مكتب الاستعلامات ، هذه توجيهات معاليه … ؛ وعندما علت بعض الهمهمات ووشوشات من كلام ، تلوت السيدة الأنيقة كأفعى رقطاء ، وقالت : سعادته لا يريد ضجة هنا .. انصرفوا ، وبلهجة قاسية أضافت : شرطي بوليس اتصرف ..!
وإن كان بعض أعضاء الوفد لا سيما الموظفين منهم قد سُرَ بتسجيل اسمه إلا أن معظم الوفد شعر وكأن لبخة سميكة ضربت على وجهه وكأنها لزقة بيطارية .
ولا يختلف حال اللزقة البيطارية التي كان من الصعوبة زوالها لما أصاب الموظفون من أعضاء الوفد بلبخة أشد قسوة ، لم يستطيعوا التخلص منها مدى العمر ، عندما فاجأهم معتمد الرواتب بحسم أجر يوم كامل لعلة الغياب غير المشروع عن العمل ، بناءً على أوامر معاليه .
ولعلك يا صديقي تناجي نفسك بالسؤال ، لماذا هذه المداخل والمخارج وما بينها من منعطفات ، كما وردني في التعليقات من إحدى السيدات الراقيات ، أو بالأصح كأنها لعبة الثعلب الذي فات … فات وبذيله سبع لفات .
لا شك أن اللبخة قادتني إلى ذلك ، سيما وإن ابن الجيران قرع الباب علينا صباح اليوم يطلب بصلة من اجل أن يتناول والده فطوره من المسبحة والحمص الناعم ، حيث لا يطيب له هكذا طعام إلا بالبصل وقد انقطع جيراننا من البصل منذ أكثر من شهر ونيف .
ولم يمض ِ من الوقت دقائق حتى عاد الولد ثانية ، وقال :
– عمو .. نسيت قلك بيسلم عليك أبوي كتير ، ولسه بدو فحل تاني .
ناولته رأس كبير من البصل اليابس ، وقلت له :
– لا تنسى تسلم على أبوك كتير كتير ، وقل له هذا آخر فحلٍ لدينا ؛ لقد ( نضبت الفحول ) .
وعند الظهيرة حضرت بنت جيراننا ( رندة ) الحلوة وقد شبت الطفلة الصغيرة وصارت صبية يشار لها بالبنان ،
و ” البنت متل المزبلة بتكبر بسرعة ” ، حيث تجاوزت ربيعها السابع عشر ، فطلبت رأس من الثوم ، لأنه كما قالت : ” جاي على بالي اتغدى بيض بتوم ..، مشتهيته ” ، يا الله ما أجمل كلمة ( مشتهيته ) عندما نطقتها رندة بغنجٍ ودلالٍ ، فتمنيت أن أكون آنذاك رأساً من الثوم ؛ ثم قلت في سري : وأنا أكثر منك شهوة لكِ .
الجزء الرابع :
{{ اللَّبَخَةُ }}
قد يَنَفردُ أهل اللاذقية عن غيرهم في باقي البلدان بلهجتهم الطيبة الخالية من التعقيد وبعض ألفاظ كلماتهم المميزة ، والتي من الصعوبة أن تسمعها في غير هذه المدينة العتيقة ، كما وصفها ابن بطوطة الذي كان أول من سار حول العالم في القرن الرابع عشر للميلاد ، وعندما وصل اللاذقية ، قال عنها : ” إنها مدينة عتيقة على ساحل البحر ، يزعمون أنها مدينة الملك الذي كان يأخذ كل سفينة غصباً ” .
ومن بين الكلمات التي يتميز بها أبناء اللاذقية ، ويتبادلونها في سياق أحاديثهم على سبيل المثال لا الحصر ، كلمة ( بنت ) يلفظونها ( بت ) ، والأمثلة في ذلك كثيرة ، لاسيما في الأمثال الشعبية التي يضربها أحفاد مملكة أوغاريت حول البنت ، وهي كثيرة للغاية ، منها ما هو إيجابي في لفظه ومعناه ، وآخر ذو إتجاه سلبي في اللفظ أو المعنى ، أو كلاهما سوية ، ومنعاً من إثارة حفيظة بعض الصديقات والأصدقاء ، وخشية من ( عصب الرأس ) وخوفاً من ضربات اللبخة التي ضُرب بها بعضهم ، يضطرنا الحال حيث ( الضرورات تبيح المحظورات ) ، إلى مخالفة معايير المنهج العلمي والمهني في تدوين التراث الشعبي .
وان كان أهل اللاذقية يختلفون في لهجتهم المحكية عن الآخرين ، إلاَّ أنهم في العادات والتقاليد على الحد السواء ، ومن ذلك .. الغبطة والفرح وشارات السعادة التي ترتسم على وجوههم عند البشارة بولادة صبي ، كقولهم :
– ” ألف ابن مجنون ، ولا ( بت ) بنت خاتون ” . وخاتون تعني
ملكة .
– ” ألف صبي معتّر ولا ( بت ) بنت راهبة ” . ويقصد بالراهبة
هنا ، الفتاة الزاهدة العفيفة .
– ” اللي يقبر ( بت ) بنت يقبر جبّ حنطة ” .
– ” البنت ( البت ) مشمشة كل الناس تهزها ” .
– ” البنت ( البت ) وراء الباب ، والصبي من عنتاب ” . يضرب
في سهولة انجاب البنات ، وصعوبة انجاب الذكور .
ولعل النظرة السائدة حول ( البت ) البنت قد تغيرت كثيراً في مجتمعاتنا ، وهذا ما نلحظه في مضارب الأمثال ، بقولهم:
– ” البنت ( البت ) تخلق ويخلق رزقها معها ” .
– ” البنت ( البت ) الحرة متل الذهب بالجرة ” .
وقد رضخت لإحدى طالباتي التي أصرت على تدوين المثل
التالي :
– ” البت ( البنت ) متل تين الطريق ، كل التين بيستوي
بالشمس ، إلاَّ تينة الطريق بتستوي باللمس ” .
وكانت حجة الطالبة النجيبة ان المثل راقٍ ولا غبار عليه ؛ فيما استهواني مثل جميل بعبارته الرشيقة : ” بنت الحلال ” ،
ولا يخفى أن أهل اللاذقية يرددونه كثيراً بقولهم : ” بت الحلال ” ، وهي عبارة مختصرة ، يقولها الزوج لزوجته في مناسبات شتى : من الرّضا إلى العتاب : يناديها أو يخاطبها بهذه العبارة ” يا بت الحلال” ، وتعني يا بنت الناس الكرام ؛ لأنه يعاتبها ويرققّها ويُلاَطِفُها .
وربما كانت المرة الأولى التي سمعت هذه العبارة وترسخت في ذاكرتي ، عندما عزفت سنين طويلة عن الزواج فأصيب أخي الأصغر بالإحباط ، وصار يردد على الطالع والنازل ، هذا زلمة لبخة – يقصدني دون غيري – لا يريد أن يتزوج ، مما دفع والدتي ” رحمها الله ” ، مخالفة عادات وتقاليد تلك الأيام ، وقالت على الملأ في جلسة عائلية ، جمعت كل أفراد الأسرة ، لقد وجدنا ( بت الحلال ) ، وكأن لبخة من بذر كتان ضربت على عيني ، فأصابني الذعر الشديد ، سرعان ما تبدد عندما أشارت أمي إلى أن بنت الحلال هذه .. ، لأخي الصغير ، فتنفست الصعداء ، واضطررت للموافقة بسرعة إلى ما عرضته أمي ، مباركاً لأخي ، هذه اللبخة التي أصابته من حيث يدري أو لا يدري ، لاسيما وأن كابوساً ثقيلاً انزاح عن صدري ، وشعرت بنفسي كعقاب يحلق في أعالي الفضاء ، ثم يحط على قمة شاهقة لينتقل بعدها إلى قمة أكثر علواً .
اللاذقية ١ / ٧ / ٢٠٢٠ ……. / للحديث تتمة .