لكننا نخبرهم أنهم قد أغفلوا أننا وضعنا نصب أعيننا أن عوامل النهوض لا تقتصر على العادات والتقاليد والفنون ومنتجات الإبداع الفكري دون تكامل الإنجازات الثقافية الكبيرة، وأن دروس النهضة المنشودة تنطلق من دروس وتجارب الأمم المعاصرة التي حققت نهضتها رغم كل المصاعب التي مرت بها، والتي يعتبرها البعض أصعب بكثير مما نشهده في بلادنا العربية في هذه الفترة، فهاهي الولايات المتحدة التي تعتبر ذروة التفكك الأسري والانحطاط الأخلاقي ورعاية الإرهاب في العالم، والتي يشهد لها في ذلك تاريخها العريق الذي سطرت حروفه على أنقاض دماء السكان الأصليين للقارة الأمريكية، تعتبر في هذا العصر منارة للعالم بما حققته من إنجازات في الأدب والموسيقا والفنون والتعليم والهندسة والعمارة والحريات العامة وحقوق الإنسان.
وهاهي ماليزيا التي كانت تعاني من كل ضروب التخلف والرجعية، وتشهد حرباً أهلية ضروس بين الأقليات الكثيرة التي كانت تتشارك الحياة على أرضها، قد حققت نقلة نوعية في بناء حضارتها حتى أصبحت على رأس قافلة النمور الأسيوية التي تنافس في السيطرة على قيادة العالم وبفترة زمنية قياسية بعض الشيء. لذلك فإننا نرى في الأحداث التي تشهدها أمتنا العربية تحديات جسيمة في قدرة هذه الأمة المتوالدة على إعادة بناء نهضتها التي لم تستمر في الحقب السياسية التاريخية إلا لفترات متقطعة غير متقاربة فيما بينها، مرتكزين في ذلك على حدثين بارزين تجسيداً لمفهوم الحجر الأساس في بناء النهضة، والمتمثلين بـ:
1- قدرة فراعين العرب المصريين على إعادة إنتاج ثورتهم ومنعها من الانحراف مرة أخرى كما حدث في ثورة يناير –كانون الثاني- التي حرفتها براجماتية الفكر الأخواني نحو طمس معالم الوجود لما هو قومي عربي في المدى المنظور، ولما هو إسلام صحيح في المدى غير المنظور.
2- قدرتنا نحن السوريين على تجاوز مطبات الفكر المستحدث للإرهاب المُصدر إلينا عبر فتاوى الإسلام السياسي، وعبور حدود العولمة الأمريكية المقنعة تحت ستار الحدود مع دول الجوار، وإعادة نتاج الفكر التاريخي لجاهلية السيف والترس وسباق الخيل في إعادة شارة حروب داحس والغبراء إلى صراع المكاسب المتحققة في تقاسم النفوذ العالمي في المنطقة المسماة الشرق الأوسط. وإن كنا كعرب سوريين قادرين على تفهم الأحداث الأخيرة التي تشهدها عملية تقاسم النفوذ العالمي على منطقة الشرق الأوسط، وقادرين على التعامل مع هذه المتغيرات في بناء نهضتنا المستقبلية انطلاقا من اعتبارات عدة:
1- إن حزب البعث الحاكم في سورية قد سعى في الماضي إلى بناء وتدعيم عوامل نهوض الأمة من خلال دعم وتطوير تراكمي لعوامل النهوض التي تركها لنا أجدادنا، مدركاً في الوقت نفسه أن هذه العوامل غير قادرة بمفردها على إعادة أمجاد الأمة دون أن يرافقها نتاج فكر حضاري معاصر، الأمر الذي أطلقه المؤتمر القطري العاشر لحزب البعث في سورية تحت شعار فكر يتسع للجميع.
2- إننا ندرك أن حروب داعش والجرباء المتمثلة في الاقتتال بين ما تطلق على نفسها دولة العراق والشام الإسلامية وما أطلق عليه تيمناً -بتصدير النفايات البشرية لتدفن في الأرض السورية المباركة- بالجيش الحر والذي يمثل الإتلاف( من الفعل تلف) المعارض الذي يتبوأه الجربا ما هو إلا اقتتال وجود في عملية تقاسم المكاسب التي سوف تتحقق من آلية تبدل الحرب على سورية إلى الوجهة السياسية المبطنة، تقوده إحدى الدول الخليجية في مواجهة مبطنة من تيار من داخلها برعاية أمريكية تهدف إلى تحقيق الابتزاز السياسي في التفاوض بالنسبة للولايات المتحدة التخريبية من جهة، وتهدف إلى بسط سيطرة الولايات المتحدة نفسها على آلية التحول التي تشهدها المنطقة بغض النظر عن مضمون التحول من جهة أخرى، وهو النسق نفسه الذي تلعبه الولايات المتحدة في مصر بدعم تيار خليجي للإخوان ودعم تيار آخر للثورة التي يحميها الجيش والدولتان برعاية وتوجيه أمريكيين
3- تأتي حروب الوجود بين داعش والجرباء بعد البوادر التي تشير إلى خروج الدول الممولة للإرهاب في سورية خارج معادلة التسوية الإقليمية بين لاعبي الشطرنج المحترفين على رقعة الشرق الأوسط، فالمنتصر قد يزيد من آليات تدميره، ويترك ورقة ضغط أقوى لصالح مموله في نيله نصيباً من كعكة التسوية بين اللاعبين الكبار، أو أن تسعى الدولة الراعية له ليعتبر لاعباً إقليمياً في صناعة الإرهاب في مكان آخر، حيث توجهه الدول اللاعبة بعقول ونفوس المغيبين عن الساحة السياسية إلى مكان صراع آخر ترى فيه مكاناً للتدمير وسرقة ثروات تلك المنطقة، وتمرير مخططاتها.
4- إن آلية الحروب بين داعش والجرباء وترقب النصرة لنتائجها، ومن ثم دخولها على خط النار القادم يشير بوضوح إلى خروج الجرباء وفصيله المتمثل بالجيش الكر خارج دائرة التدمير في تصفية حسابات الجهات المسيطرة على الأحداث الميدانية أو ما نطلق عليه اصطلاحاً شعبياً (فرق عملة)، الأمر الذي يبقى بعض أفراده من السوريين –إن لم يتم العمل على تفادي الموضوع-
في دائرة الانضمام إلى الفكر التكفيري لداعش أو النصرة، مما يقود إلى تدعيم الشرخ المجتمعي في سورية خاصة بعد إرغام دول الجوار على إغلاق حدودها مع سورية وفقاً لقرار مجلس الأمن وتوقع مراقبة هذه الحدود من الدول الداعمة للحرب على سورية نفسها. إن تفاقم عمليات الاقتتال بين الجماعات الإرهابية في سورية وعلى رأسها حروب داعش والجرباء، وتطورها في وقت لاحق لتشمل الجماعات المقاتلة كافة ضد الشعب السوري، تعتبر بدايات التحول نحو نهاية الأحداث الدامية التي تشهدها الجمهورية العربية السورية، وتعتبر في الوقت نفسه التحدي الأبرز للجمهورية العربية السورية وحزبها القومي الحاكم في إعادة صياغة عوامل نهوض الأمة المتجددة من تحت أنقاض المتأسلمين التكفيريين المدعومين أمريكياً والذي يعتبر استقطاب المتورطين من السوريين في هذه الأحداث أحد أبرز أركانه. عشتم وعاشت الجمهورية العربية السورية موطن الأبجدية الأولى في العالم.