غسَّان القيِّم..
……………………….
أوغاريت التي تعودتُ الإشادة والكتابة عن حضارتها والاعتزاز بها دائماً وهذا حق طبيعي ومبرر لها هذه المدينة التي سحرتني وادهشتني ..وأنا الذي قضيت فيها قرابة ربع قرن مديرا ومشرفا ومتابعا ومنقبا ومرمما لجدرانها وحجارتها ..
رغم كل الدراسات المتأنية والطويلة لآثار مدينة أوغاريت وضخامة وتنوع الأبحاث والدراسات العالمية التي صدرت عنها وروعة الاكتشافات المذهلة وترجماتها بعد إثنان وتسعون عاماً مرت على اكتشافها وجدتُ بأن هذه المدينة الأثرية العظيمة لا تزال تحتاج إلى من يكتشفها ويعطيها موقعها الحقيقي .. وعندما تتجول في قصورها الملكية وبيوت سكانها ومعابدها والسير في شوارعها العديدة التي كانت تدب فيها الحياة والحيوية يوماً ما وتدخل مع حجارتها في حوار صامت عندها تتعرف أكثر على الحياة التي عاشتها هذه المدينة العظيمة وعن النشاط الاقتصادي والزراعي والحياة التي عاشها أهل أوغاريت.
لكن نسينا بأن أوغاريت التي لا نعرف اسمها قبل أن يطلق عليها هذا الاسم في الألف الثاني ق.م عن أقدم قرية زراعية هاجر سكانها من حوض الفرات والبادية السورية ليقيموا على الساحل السوري بعد أن أتقنوا فن البناء والزراعة والتدجين فكانوا بذلك صناع الثورة الزراعية منذ الألف الثامن ق.م وهو تاريخ السكن الأول في موقع رأس الشُمرة.
لقد بنى سكان هذه القرية البيوت الكبيرة والصغيرة من اللبن والطين والحجر وزودوها بالنوافذ والأبواب وأحاطوها بالباحات والشوارع وجعلوا منها نسيجاً عمرانياً متميزاً.
كما زرعوا منذ ذلك الزمن الباكر القمح والشعير والذرة إضافة إلى أشجار العنب والتين والزيتون ودجنوا البقر والغنم والماعز والخنزير.
أما على الصعيد الروحي مارسوا أهل هذه القرية الفنون والمعتقدات بينها عبادة الأسلاف التي استمرت زمناً طويلاً في الشرق القديم في الألف السادس والخامس ق.م عصر حضارتي حلفْ والعبيد. حيث استمرت قرية رأس الشُمرة بالتطور على كل صعيد فأبدعت أفضل وأجمل أنواع الفخار الملون والمزخرف ذي المواضيع الفنية والمتنوعة والذي غدا مادة تجارية جابت المنطقة من أقصى مشرقه إلى أقصى مغربه.
هكذا تابعت قرية رأس الشُمرة الحياة والتقدم على امتداد الألفين الرابع والثالث ق.م عصر حضارتي الوركاء وعصر البرونز في عصوره الثلاث وظهر هذا واضحاً في كل المجالات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والروحية وغيرها مثل العمارة والفنون والشعائر والممارسات الأخرى. وبذلك وضعت البنى التي نشأت عليها وتطورت منها مملكة أوغاريت العظيمة. وهذه المدينة التي جمعت في طياتها جميع الاتجاهات والتمازجات الثقافية والدينية المختلفة لمناطق شرق البحر المتوسط وآسيا وصولاً إلى مصر.. مكنها هذا الانفتاح من تقديم إمكانيات واقعية لتفاعل ثقافات متنوعة نتج عنها إبداعات مختلفة كانت فيها الثقافة الأوغاريتية هي الأقوى والأكثر تفاعلاً وديمومة جعلتها هذه العظمة تحتل مكانة عالية ورائدة.
ونحن نقول: إذا كانت أوغاريت قد صدرت الأبجدية للعالم فإن قرية ما قبل ازدهار أوغاريت في منتصف الألف الثاني ق.م قد صدرت الثورة الزراعية أيضاً إلى مختلف أرجاء المعمورة.
الحديث عن اوغاريت لا ينتهي وعندما نخوض في بحر حضارتها ومكتشفاتها نرى أن هذه المدينة تدهشنا دائماً بجدية مكتشفاتها وهي مثيرة للإعجاب وهذا يدفعنا دائماً إلى زيارتها للتعرف عليها أكثر. لابد إن اتساع أعمال التنقيب الأثري مستقبلاً ومتابعة دراسة مكنوناتها الأثرية فيها سوف يغني معلوماتنا إلى حدٍ بعيد. ليدل أن عطاء أوغاريت ودورها قديم وهام جداً سبق عصر المملكة التي نشأت على الأرضية الاقتصادية والتقنية والاجتماعية المتطورة لمجتمع أوغاريت في عصور ما قبل التاريخ..
عاشق أوغاريت ..غسان القيّم..