لم يعد قلبي يعرف قلبي .. ولم يعد عقلي يعرف عقلي .. ولم يعد الكلام يشبه الكلام .. أقول هذا لأن الترسانة الهائلة من المفردات والمصطلحات الثورية وفيضان الأكاذيب والدموع لم تعد تثير حنقي وغضبي ولم يعد لها ذلك المذاق المر في الحلق ولاطعم الدم في الفم .. ولم تعد لها برودة حد الشفرة أو حرارة الحديد المصهور في الأحداق .. وتضاءل ذلك الشعور بالتمزق الذي يخالج الأبرياء أمام شهود الزور والزناة المجرمين ..
لم تعد أدبيات الثورة تستوقفني و لم تعد عباراتها الوقحة المتعرية على قارعة الطريق تغضبني فأسفك دمها .. ليس لأنني نضبت من الغضب وليس لأنني نضبت من الأدب .. ولكن لأن قاموس ماسمي "ثورة الربيع العربي" نضب وشح لهيبه وخبا ضوءه وأصيبت كلماته بالهزال وعلاها الصدأ الثقيل البني .. واصيبت مفاصلها بالتيبس والجفاف وتلاشى الشحم من عجلاتها .. و أما السم الذي كان ينقط من أنياب الكلام الثوري وأفعوانات الحرية فانه لم يعد يسمم الا الأفاعي التي تحمله ..
وهاهي اليوم عجلات الدنيا تسير على أجساد الاسلاميين وأشلاء أحلامهم ..وهاهي عجلات الاتفاقات الدولية تفرم أصابع الاسلاميين وتمر عجلاتها على سيقانهم .. الاسلاميون احرقوا اصابعهم شموعا للغرب من أجل أن يعطيهم السلطة .. لكن الغرب صافح ايران .. واعترف لروسيا بنفوذها .. ولايعنيه ان زعل الاسلاميون واتهموه بالنفاق والتراجع .. فالغرب لايحمي المغفلين ولايصافح الأيدي التي باتت بلا أصابع ..
نعم .. صرت أمرّ بالكلام والمؤتمرات والتصريحات الثورية كأنني أمر على النشرات السياسية القديمة لحزب البعث التي كانت توزع يوما في عهد الرفيق سليمان قداح والرفيق عبد الحليم خدام .. قلما اقرأها وكثيرا ماأضعها دون قراءة تحت فنجان القهوة كيلا يندلق على مكتبي .. نعم لقد صارت خطابات الثوار وكتاباتهم مكررة ومملة ومثقلة بعبارات من حطب وليس في فمها سوى نشارة الخشب .. وتعب مبلل بالتعب .. لغة عقيمة وعاجزة عن تحريك مشاعر الغضب كما هي عجوز شمطاء لاتقنع شابا وسيما بشرب القهوة معها في أي مقهى راق ولاتغريه ماكياجاتها الغاضبة الفواحة بعناقها ومراقصتها .. ولكنه لايمانع من أن يلاقي امرأة جميلة ولو فوق شجرة أو في مغارة .. لقد شاخت الثورة بسرعة وشاخ خطابها وشاخت كلماتها .. ولم تعد تستفز فينا الرجولة والتحدي ورغبة الصراع .. وصار مستقبل مابعد الثورة فتاتنا الجميلة التي نواعدها الآن في الغوطة وحلب وعلى مفارق الوطن .. ولاشك ان مانحس به سببه أننا جميعا صرنا نرى حطام الثورة والثوار .. ورؤية الحطام لاتثير شهية التحطيم .. فالمشروع الثوري الاسلامي تحطم تحطما شديدا ولم يعد يهدد أو يخيف أحدا .. وهاهي التوافقات الدولية تتفق على اكمال التحطيم .. وسقط اكبر مشروع اسلامي للحكم في شر أعماله بسبب سوء نواياه وسوء تقدير قادته وبسبب "رضاعة الكبار" فيهم من ضروع بقرة اسرائيلية وأوروبية .. ومن أثداء تسيبي ليفني وأثداء سالومه القاتلة وغولدامائير ..
فكم رضع الثوار من قاموس (جبهة الجولان الصامتة) وكم طحنوا اسمه بين أضراسهم في كل وليمة ثورية .. وكم بكوا سلاسل الدبابات السورية الصدئة كما قالوا .. لكن تبين الآن للجميع أن ليس صدأ المدافع السورية على الجولان هو مايثيرهم بل صدأ الدبابات الاسرائيلية وطائرات الناتو التي لم تتحرك معهم ولم تقاتل معهم رغم دموعهم التي سكبوها كالزيت والشحم على محركاتها .. كم أكثروا من سكب الزيت والشحم على محركات الطائرات الاسرائيلية والأطلسية وهم يسكبون تهديداتهم وشتائمهم بسخاء على ايران وحسن نصرالله .. وكم مسحوا مدافع الدبابات الاسرائيلية بأعلام الثورة وزيت السلام و "الشالوم" ؟؟
هل هناك بعد الآن من لم يسمع الكلام عن جبهة الجولان التي ينطلق الثوار منها نحو سورية وليس نحو اسرائيل .. اسرائيل من خلفهم وسورية من أمامهم .. وبعد هذا لايزال بعضهم لايتردد في الكتابة عن صدأ السلاح السوري في الجولان ويكتب لنا بالمسامير الصدئة عن المقاومة كتابة يعلوها الصدأ.. والكلام الصدئ يمر فوق الكلام الصدئ بتثاقل ويسمع السامع صوت اصطكاك الصدأ بالصدأ وتلكؤ أسنان الكلام وتكسر مسننات اللغة وهي تئن لتدوير الكلام الذي تآكلت حروفه ..
ومن منا الآن لا يزم شفتيه ويتضجر من النفاق بل ويضحك ملء شدقيه وهو يسمع خطاب الاسلاميين عن عدائهم للغرب واسرائيل فيما الغرب يرعاهم والغرب يطعمهم ويسقيهم ويسلحهم .. واذا بهم ينطلقون وظهورهم الى "أورشليم" ووجوههم نحو دمشق ..حتى مقاتلو فلسطين الاسلاميون ينفرون الى الشام .. ولم يعد يمكن تجاهل أن الاسلاميين هم جيش رديف للغرب .. وهم قصبة الهواء لاسرائيل التي كلما غرقت تتنفس من خلالهم .. فكما تنفست بعد أحداث سبتمبر التي تبرع بها الاسلاميون فانقشعت غمة العمليات الاستشهادية عنها بسبب انهيار أبراج نيويورك .. هاهي الآن تلعق المسجد الأقصى ويسيل لعابها على حيطانه وعلى قبته .. لأن جيوش الاسلاميين وحماس ورائد صلاح وكل المجاهدين يشاغلون حزب الله والجيش السوري عنها ويهددون ايران والعراق بالثبور وعواقب الأمور .. ويقتلون انفسهم في كل شوارع الدنيا الا شوارع اسرائيل..
هل هناك من لايدخله السأم من كلام لاكته أضراس العالم عن ثورة الكرامة ضد الاستبداد ؟؟ كم فلح الثوار عقولنا وآذاننا وأحداقنا بعبارات كرامة الشعب والعدالة والديمقراطية .. فاذا بأكثر ذل يصيب الشرق هو في عهد الثورة والثوار .. واذا بأكثر نزيف تتعرض له العدالة والديمقراطية هو زمن الثورة والثوار الذي كان أكثر عهد قطعت فيه أعناق البشر وأصابع البشر.. وأرزاق البشر ..وسقطت فيه أعناق مآذن الجوامع وجماجم قببها.. وقطع الشجر العتيق ورؤوس النحت والتماثيل .. واذا بأكثر عهد ذكر فيه الله وشرع الله تقل فيه الرحمة بين البشر ..
اليوم بزغ الفجر وصار الكلام الثوري عن الحرية الحمراء التي تدق بالأيدي المضرجة مسليا ومثيرا للسخرية بدل الغضب عندما نرى أن ليس للحرية يدا حمراء تدق على الباب بل للحرية لحية طويلة شعثاء حمراء بلون الدم وتلبس الجلباب والنقاب وتمارس جهاد النكاح أمام الباب وخلف الباب وفوق الباب وتحت الباب .. لم تعد نداءات الحرية تخيفنا بل صارت الحرية تخيف أصحاب الحرية الملثمين والمنقبين ..