استقطبت المنطقة المسماة بمنطقة الشرق الأوسط أنظار العالم إليها كما لم تستقطبه منطقة أخرى من قبل، لما تتمتع به من موقع جيواستراتيجي هام، احتضن صراع الأمم المتناحرة فيما بينها من جهة، والصراع مع شعوب المنطقة من جهة أخرى، من أجل السيطرة عليها والاعتراف بالدور الذي تمارسه كل منها في المنطقة، مجسدة مقولة فوكوياما في كتابه نهاية التاريخ عندما قال بأن الرغبة في نيل الاعتراف هي من أهم الاحتياجات البشرية. وقد ترافقت هذه الرغبة في إعادة صياغة أسس ومبادئ الاعتراف التي تتفق عليها الأعراف وتسعى إلى تحقيقها الجماعات، فاعتبرها البعض أنها رموزاً ودلالات تشير إلى العزة والسيادة، وأقرها البعض على أنها مبادئ مقدسة لا يمكن الابتعاد عنها أو تجاهلها أو حتى تأجيلها لأي وقت كان، وهي – على الرغم من كونها خُطاً أقرها أجدادنا وآبائنا وساروا عليها كقواعد لتنظيم الأمر المتداول بينهم- تعتبر عند كلا الفريقين من الثوابت القومية أو الوطنية تبعاً لرؤية كل فريق من منظوره الاستراتيجي، حيث يسعى المتآمرون إلى اختراق هذه المفاهيم وتشويهها من أجل صناعة أرضية جديدة تُسهّلُ اختراقها في المستقبل، في حين تسعى الشعوب الحرة إلى المحافظة على هذه الرموز وتطويرها وتعظيم قيمتها ودلالاتها في ظل ضبابية المشهد الذي يفرضه واقع الصراع في المنطقة. فما هي الثوابت الوطنية أو القومية التي يسعى إليها كل من هؤلاء. لنبدأ أولاً بتقديم مفهوم مبسط لهذه الثوابت ودلالاتها، مع الإشارة إلى أن المفاهيم مجردة مهما بُذلت في صياغتها من عناية فائقة مقارنة بالتطور الحضاري للأجيال والأمم التي تسطر أسس المفاهيم عملياً على أرض الواقع، الأمر الذي يجعل من ضرورة صياغة هذه المفاهيم وإعادة ترتيب دلالاتها ضرورة ملحة من جيل إلى أخر. فالثوابت الوطنية بإجماع أغلبية المثقفين هي مجموعة القيم والمبادئ المشتركة التي استمدت قوتها وشرعيتها من تكامل وتكافل الجماعات في صياغتها وفقاً لثقافة مجتمعاتهم وتراثهم ورؤيتهم لآلية تنظيم الحكم والتعامل فيما بينهم بما يحقق لهم العدالة والمساواة. نلاحظ من هذا المفهوم أن الثوابت الوطنية تقوم على أسس ومحددات بارزة أولها المواطنة المتمثلة بضمان حق المشاركة المجتمعية للمواطنين في التعبير عن أنفسهم وعاداتهم وتقاليدهم التي تنظم العلاقة بينهم في المجتمع ضمن أطر تخضع للتطور التلقائي، أو تخضع لإرادة الأطراف جميعها في تنظيم العلاقة فيما بينهم، بما يجعل منها قوة قادرة على أداء الدور المناط بها في مسرح الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية المختلفة، وقادرة على توفير الحرية الكاملة للجماعات التي تمثلها في إدارة شؤونها وتقرير مصيرها. ثم يأتي بعدها التراكم المعرفي لما يمتلكه المواطنين من خبرات وثقافات ومعارف تقودهم إلى رسم ملامح حياتهم ومستقبلها، من أجل تحقيق الهدف الأسمى في المواطنة، وهو البند الثالث المتمثل بسيادة القانون من أجل تحقيق العدالة والمساواة النسبية التي ترسمها هذه الثوابت. كما يقوم هذا المفهوم على أسس ومحددات السيادة التي تحقق التنظيم السياسي والقانوني المتكامل للجماعات البشرية، مما يجعل من هذه الكيانات مستقلة عن أية ضغوط من جانب الدول الأخرى خارجية كانت أو داخلية وعلى كافة الأصعدة المختلفة بما فيها تنمية الموارد والمهارات والمعارف البشرية. أما من الناحية العملية فإن غالبية الدول تنظر إلى الثوابت الوطنية في العصر الراهن -بما يشهده من تحولات وتبدلات هيكلية في مفاصل ومقاصد السياسة الدولية، والتي يعتبر ظهور الجماعات أحادية التوجه كجماعات الأخوان المسلمين السمة الأبرز فيها- على أنها تتمثل في: 1- وحدة أراضيها. 2- أركان الدولة القائمة والمتمثلة بـمقام الحكم أو الرئاسة (الحاكم) وما يتبع له وما ينتج عنه من حكومة ووزراء وقرارات ومراسيم. 3- الدستور الوطني المقر شعبياً بما يتضمنه ويتبع له من إشارات ودلالات بارزة عن: العلم الوطني- النشيد الوطني – العملة الوطنية- شعار الدولة – الهوية الوطنية (البطاقة الشخصية) – جواز السفر….الخ. 4- المجالس البرلمانية المنتخبة ديمقراطياً من قبل الشعب كمجلس الشعب أو البرلمان أو مجلس الأمة وغيرها. وقد أضحت هذه الرموز في ظل ما يسمى الربيع العربي إحدى أبرز السمات المستهدفة في ظل الوصول إلى الفوضى الخلاقة التي نثرت بذورها الولايات المتحدة الأمريكية من أجل الوصول إلى شرق أوسط تابع لسياساتها، لتبرز أولى ملامح انتهاكات الثوابت الوطنية بتقديم الدعم لجماعات أحادية التوجه في مصر من أجل الالتفاف على الإجماع الشعبي في التغيير نحو الأفضل، ثم تلاها انتهاك لرموز ودلالات أخرى وخطيرة تجلت في ليبيا في رفع علم مغاير للعلم الوطني الليبي ثم تناول مقام الحكم فيها، وهو الأمر الذي تم محاولة التعرض له في سورية مع إضافة انتهاكات أخرى للعملة الوطنية والهوية الوطنية وجواز السفر السوري والنشيد الوطني. الأمر الذي قد يرى فيه البعض أمراً خطيراً في سياق صياغة مستقبل الأجيال القادمة في المحافظة على الكرامة والسيادة والاستقلال، ويرى فيه البعض أمراً ثانوياً يمكن التغلب عليه أو تفادي تأثيره مستقبلاً، إلا أن النظر إليه على هذا الأمر يعتبر خطير جداً، ولنبدأ بالعلم الذي قد يعتبر دون دلالاته الرمزية والسيادية قطعة من القماش ملونة أو مزركشة، ولكنه رمزاً سيادياً للشعوب ولدولها، لأنها ارتضت الانخراط بالعمل تحت دلالته، فهو المعبر عن وجودها وكينونتها، وله التحية والتعظيم، واحترامه احترام لنا، ورميه أو تبديله دون إرادتنا المجتمعة يعني ذلنا وسلخ وجودنا. ولنا في ذلك مدلول قوي في حادثة استشهاد ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم جعفر بن أبي طالب في موقعة مؤتة، ومن بعده الصحابي الجليل عبد الله بن رواحه في الموقعة نفسها، حيث استشهدا في سبيل الحفاظ على راية الجند مرفوعة في تلك الموقعة. أما فيما يخص العملة الوطنية، فهي قد تكون بالمفهوم الضيق قطعة معدنية أو ورقة من حجم ولون معين، لكنها تحمل في طياتها الجهود المجتمعة لأبناء الدولة الواحدة في إنتاجهم وتبادلاتهم التجارية فيما بينهم ومع العالم الخارجي، وحمايتها ومنع التعامل بغيرها هو حماية لحقوق الأبناء ولثرواتهم، وحماية لكرامتهم، ونستدل على هذا الأمر من تذكر الاستعمار وما كان يقوم به من محاولة فرض عملته أو ربط العملة الوطنية للدولة التي يحتلها بعملته حتى يتمكن من سرقة ثروات الشعوب. أما ما يخص مقام مؤسسات الحكم باعتبارها من الثوابت الوطنية والقومية، والذي يمثل في سورية مقام رئاسة الجمهورية فنكتفي بالإشارة إلى تعاليم كونفشيوس إذا فقد الشعب ثقته بالحاكم فسوف يؤدي ذلك إلى انهيار الإمبراطورية بالكامل. لنعلن أنّ سورية قد انتصرت لأنها حافظت على رموزها ودلالاتها الوطنية وهي الثوابت التي يجب أن تكون دائماً في بوصلة القطار الذي توجهه في المراحل القادمة، علما أن أدوات النصر والحفاظ على هذه الثوابت هو من أبرز الثوابت الوطنية والقومية والوجدانية التي تتحلى بها الأمم والشعوب المتحضرة وهو الكرامة، فإذا كان العالم المتآمر يسعى لإيجاد نهاية التاريخ فإن مقولة فوكوياما "بأن هناك قلة بطبيعة الحال تؤمن أن للإنسان كرامة لأنه قادر على الاختيار الأخلاقي" قد سقطت أمام أحد أبرز الثوابت الوطنية والقومية للشعب السوري التي تميزه عن غيره من الشعوب وفق إشارة ضمنية نوجهها إلى فوكوياما نفسه، وهي الكرامة التي سطروها بدمائهم.