د.نعمه العبادي
– الانسحاب الامريكي من افغانستان شبه التام هو اكبر من قرار لتخفيض القوات، وليس مقرابة جديدة لاستعمال القوة في مناطق اهتمامات الامن الامريكي، بل هو بمضمونه ضوء اخضر او على الاقل سكوت ضمني لعودة سلسة ل (طالبان)، بعد ان اصبحت (بأجيالها الجديدة) أبعد عن الايدلوجيا، واكثر فهما وتعاملا بطريقة نفعية، وقد تم ترويضها بشكل تام في المرحلة السابقة، وهي مهيئة للعب دور آخر يتعلق بالتدافع الخشن مع الوجود الروسي والايراني في المنطقة عموما وفي افغانستان على وجه الخصوص، كما، ان تجربة الديمقراطية المشلولة والحكومة الهشة التي تبناه الامريكان في كابول لم تحقق المزيد من المصالح الامريكية، وهذا التوجه الجديد غير معني تماما بمستقبل افغانستان والمنطقة مهما كانت النتائج المحتملة.
– ان امريكا وايران يدركان جيدا (ومع اي ادارة وحكومة في كليهما) المسافة التي ينبغي ان يقفا عندها في حالات التصعيد، فمع استمرار لعبة (شد الحبل) من عقود إلا ان كل منهما يحفظ الخط الذي يقف عنده إلا ان المشكلة تكمن في وكلائهما في المنطقة، ومن يتصرف بالنيابة عنهما (بأذن وتنسيق او بالتبرع لغرض تسجيل موقف)، إذ يتحرك معظم هؤلاء وخصوصا في العراق بدواعي ومصالح أضيق وادنى من (مصالح دولة)، فالمعظم يتحرك ما بين المصالح الجهتية والشخصية، كما ان الحماس الايدلوجي لدى هؤلاء غير مروض ومعادل بدواعي مصالح الدولة، لذا فإن خطورة الاندفاع والتهور والمغالاة محتملة جدا، وتزداد احتمالات حماقة الاندفاع بشكل اكبر لتجاوز مساحات التوازن بسبب الشعور الخاطئ بأن رعاتهم من الامريكان والايرانيين سيندفعون خلفهم بنفس حماسة مشاعرهم.
– لا يزال الحساب في المنطقة يقوم على فكرة أولوية الخطر الايراني الذي ينبغي ردعه بواسطة القوة الصلبة، وان الخيار الوحيد (بحسب هذه الرؤية) يتمثل في الاستعانة بالحليف الاسرائيلي والامريكي المتشدد مع ان هذه الرؤية تستبطن نظرة نفعية في اعماقها إلا انها لا تزال تمتنع من اعادة مقاربة فهم اخطار المنطقة وتحدياتها وفق قراءات اخرى تستبعد الخيارات الصلبة، وتستحضر شركاء وفاعلين آخرين، يمكن بإضافتهم للمعادلة تسوية الامور بطريقة جديدة.
– على الرغم من ان الجميع يدرك من قرب، ان دعاوى الايدلوجيات وحماساتها كذبة كبيرة عند البحث الموضوعي في حقائق توجهات الكثير من الاطراف والقوى إلا ان الايدلوجيا لا تزال تشحن وتحرك وتعبأ بالقدر الذي يدفع بالكثير من السذج والمغفلين إلى معارك خاسرة وصراعات بالنيابة، وهنا لا بد ان نفرق بين القضايا القيمية والاخلاقية وبين الانخراط الايدلوجي الاحمق، كما، ان الدين بنسخته المشحونة بالسرديات التاريخية وليس (الدين= الايمان)، يلعب دوراً فعالاً في تغذية الاجواء المحمومة في منطقتنا، ويضفي صفة المقدس على معظم حركة الصراع، مما يزيد المشهد تعقيدا.
– الصورة المحلية الحالية، ومسار النمط الانتخابي المرتقب، والاوضاع الضاغطة في كل المجالات، تجعل الانكماش على الصورة التقليدية لمسار العملية السياسية الخيار الاكثر أماناً، خصوصا وان الجميع ممن تحدث عن الاصلاح لا يملك مقاربات عميقة حقيقية يمكن ان تمس قلب الامور، وتنتج صور جديدة يمكن ان تخرج مشهد السياسة والحكم مما ارتهنه من موبقات المرحلة السابقة، لذا فإن الامل بتغيير حقيقي اقرب إلى السراب والوهم.
– لم يطور الجمهور (الغاضب والرافض والمستنكر بل وحتى الممانع) المحلي بل وحتى الاقليمي طرق تعاطيه مع اشكالية الحكم غير الرشيد، وموضوع الاصلاح، وقضية التبعية للخارجي، والفساد والادارة السيئة، ولا يزال يعتمد اسلوب النقد الفردي الانفعالي، كما، ان قدرة الانظمة على ترويض ردات الفعل لا تزال فعالة ومؤثرة خصوصا في الظروف التي يتطلب فيها من الجمهور الصمود لاوقات اطول، وفي ذات السياق، لا تزال النخب تكتب انفعالاتها في الفضاء الازرق، وتعود لتتاكد من ضمانات حياتها المستقرة، كما انها في الغالب تنخرط بكرنفالات شتائمية بلغة اكثر تهذيبا من الشتائم الشعبية، لا اكثر من ذلك.
– يكمن التحدي الاكبر الذي يواجه كل الذي يتحدثون بالاصلاح ويكتبون عنه، في القدرة على بلورة مجالات محفزة واقعية ونشطة ومؤثرة قادرة على الاستقطاب الفعلي لقوى التغيير المتناثرة في الفضاء العام في مشروع ذي توجهات مركزة ومحددة، يتحدث بلغة الارقام، ويتعامل مع مخرجات الافعال بعيدا عن الرومانسيات الحالمة.
– تمثل النزعة الاستعلائية (السعودية- الايرانية- التركية) احدى مداخل الازمة والتعقيد في منطقتنا، إذ تتحرك هذه الاطراف الثلاثة في صياغاتها لمشهد السياسة والامن بل والهيمنة في المنطقة من منطلقات هذا الشعور الاستعلائي..
ارجو ان تشكل هذه الخلاصة صورة واضحة عن واقع ومستقبل منطقتنا، تسهل على المتابع والمهتم فهم الواقع بشكل اعمق…