إذا مررت بهم فأشتري منهم،
فأشياءهم نظيفة،
ومعدنهم أنظف،
ومعاملتهم أجمل،
وبيوتهم لم يدخلها الحرام ….
من بين ما نشأنا عليه في دمشق سماع نداءات الباعة في الأسواق والأزقة والحارات. كان هذا البيع يتم في الدكاكين، يذهب الناس إليها فيتسوقون، لكن هذا النوع من البيع لم يكن النوع الوحيد. كان الباعة يأتون إلى الناس في حاراتهم يحملون الخضار والفواكه وكل شيء تقريباً على ظهور الدواب، ويمرون بها أمام الأبواب وينادون. وكان لكل صنف نداؤه الخاص، حتى ليمكن القول إن هذه النداءات في مجملها كانت تشكل قاموساً شعبياً خاصاً، عشش في ذاكرتنا على الرغم من أن بعض هذه النداءات قد غيبه مضي الزمان.
كان لليخنا نداؤها: “يخنا واطبخ” ممطوطة ممدودة، ويقال أن العبارة مأخوذة من جملة مسجوعة كانت متداولة قبل أن نولد: “يخنا واطبخ والجارية بتنفخ والولد عالباب عميقلّع الكلاب”، ربما لأن طبخة اليخنا تحتاج إلى لحم ومرق وعظم. اليقطين، وينادي عليه “أكلو شفا هاليقطين”. الكوسا تشبّه بالموز: “موز يا كوسا” و”أسود مثل الليل يا بيتنجان”، فسواد الباذنجان دليل على جودته. البندورة حمراء، وينادى عليها بتسبيق الصفة: “حمرا يا بندورة” و”أصابيع البوبو يا خيار”. والبطاطا الجيدة تنسب إلى البلدة التي تنتجها: “يبرودية يا بطاطا”، والفاصولياء: “بلا نسر يا فاصوليا”، أي أن الفاصولياء خالية من القشور الرفيعة.
التماري والكعك… أكلة شعبية تتناول في الصباح، وكنا أيام زمان نحبها ونترقبها. كنا نسمع البائع ينادي: “تماري وكعك”، فنهرع إليه ونشتري منه. ومن الحلوى التي كان النداء المروج لها يجذبنا إليها الحلوى التي كان صاحبها ينادي عليها: “حلّي سنونك” أي أسنانك، وكانت ممطوطة كالحلوى نفسها. النداء حدد اسم هذه الحلوى، وغير “حلّي سنونك” لم نعرف لها اسماً قط! ومن النداءات التي كان لها وقع خاص في آذاننا تلك التي كانت تتردد في الأشهر الفضيلة الثلاثة: رجب، شعبان، رمضان؛ فمع ظهور السكاكر التي تشبه الأساور العريضة، وكان اسمها “ليلة الله” (كانت تظهر في رجب تحديداً)، كنا نسمع صوت البائع ينادي “ليلة الله”، ومثله أكلة “الجرادئ” التي كان باعتها يطوفون بأقفاصهم القصبية وينادون: “ناعم .. يا ناعم”.
ومن النداءات التي كانت تحيرنا أيام زمان في دمشق النداء الخاص بالكستناء: “مال وارنا”. كنا نسمع هذا النداء دون أن نعرف ماذا كانت “وارنا” تعني، والفهيم فينا من كان يجتهد ويقبل أن الكستناء مجلوبة من مكان اسمه “وارنا”. ولما كبرنا عرفنا أن “وارنا” هي “فارنا” (بلدة بلغارية على ساحل البحر الأسود)، وأن النداء على الكستناء بأنها مال وارنا يعني أنها مستوردة من هذا البلد البعيد. الباعة كانوا ينسبون بعض الفاكهة والخضار إلى بلاد ومدن بعينها: “حموي يا مشمش”، ومن النداءات التي كنا نسمعها في آخر مواسم المشمش: “آخر أيامك يا حموي” نسبة إلى مدينة حماة التي يكثر فيها. وكان النداء الخاص بالبرتقال الذي لم أنسه قط نداء بائع البرتقال في سوق الهال والذي يقول فيه “رطل البردقان بخمسة، تعا كول بالشمسة!” فبالسليقة الشعرية العفوية خرج هذا النداء. وكان للموز نداؤه الخاص: “أبو نقطة يا موز” إشارة إلى هذا النوع الذي كان مشهوراً بالنقاط السوداء التي تظهر على قشرته. وكانوا ينادون على الدراق: “الله يرحم اللي نصب” أي رحمة الله على من زرعه. وكانوا ينادون على العنب بأنواعه: “زيني يا عنب”، “ديراني يا عنب”، “حلم البنات يا عنب”. وللسفرجل كانوا ينادون “للمعقود يا سفرجل”
وكان يخلب لبّنا من النداءات أيام زمان نداءات المشترين، جماعة امتهنت شراء الأثاث والأشياء القديمة، يطوف رجالها الأزقة والحارات ينادون: “اللي عندو طقومة، اللي عندو تخوتة، اللي عندو خزانات”. كان هؤلاء يسمون حرامية النهار؛ كانوا يستغلون حاجة المحتاج فيشترون كل شيء يعرض عليهم بالزهيد من المال، ويعودون بغنائمهم إلى سوق الأروام (في مدخل سوق الحميدية) لترميمه وإعادة بيعه بأضعاف مضاعفة. كان هؤلاء يطوفون اثنين اثنين أو ثلاثاً، ويحدثون جلبة: “اللي عندو طقومة، اللي عندو خزانات، اللي عندو كراسي، اللي عندو طاولات، اللي عندو ماكينات”. كان النداء يتم بنفس واحد ونغم واحد، وكان هذا يخلب لبّنا!
وإذا كان للذاكرة أن تمحو نداءً ما، فإن نداءً واحداً لا يمحى. إنه نداء الغجرية التي كانت تطوف الحارات والأزقة تحمل رضيعها على ظهرها كأنه بقجة ثياب، وتنادي: “منجمة مطلعة .. بشوف البخت .. بفتح الفال”. كان لهذا النداء سحره الخاص عند النساء بخاصة، وكثيراً ما استجابت أمهاتنا وأخواتنا له. ودعون المنجمة لمعرفة ما يقوله “الودع” بشأن المستقبل. وكان الفضول يستحثنا لسماع المنجمة، وكان أهلنا يؤنبونا على ذلك ويطردوننا.
كان ينادون على نبات الطرخون “خاين…” وسألنا عن سبب هذا النداء، فقيل إن الطرخون يزرع في مكان فينبت في مكان آخر، ولهذا سمّي خائناً، وكرس النداء على صفته. وعلى العرقسوس كان صاحب القربة ينادي: “خمير… خمير”، وكان الرجل الواقف وراء حلّة الشوندر ينادي: “عسل.. عسل”. وفي موسم الصبارة كان بائع الصبارة المبردة ينادي “مزاوية يا حلوة” نسبة إلى منطقة المزة التي كانت حواكير الصبارة تكثر فيها. وكان حامل شليف الخس ينادي: “الله الدايم .. الله الدايم”. وكان باعة التوت الشامي يحملونه في طسوت صغيرة وينادون عليه في مواسمه المحددة: “أكلو شفا هالشامي!” وفي موسمها كان الباعة ينادون على العوجا، أي على اللوز الأخضر: “أول فواكي الشام يا عوجا”. وكانت العوجا أول فواكه الشام فعلاً؛ كنا نراها في أواخر الربيع يبيعها الباعة مع الجانرك ومع القرعون، أي المشمش الأعجر.
نداءات ونداءات… قاموس ضخم من التعابير المناسبة التي كانت تطلق على السلع المتداولة في الأسواق. كان ينادى عليها سواء أكانت في محالها أم كانت محمولة على رؤوس الباعة أو على ظهور الدواب. حتى البقدونس والكزبرة كان الفلاح القادم بنفسه ودابته لبيعهما ينادي “كزبرة طرية .. سبانخ طرية.. إلخ” ومثله كان بائع الزعبوب: “درن درن يا زعبوب .. البزر بن يا زعبوب”. وكم كنا أيام زمان نحب هذه الأكلة التي لا أعرف إلى اليوم إن كانت فاكهة أو نبتة برية.
#مجـــــلةالثقافـــــةوالبنـــــاءالمعـــــرفـــــي
أ.#خضـــــر_ياغـــــي_ياغـــــي