تختلف الرؤى والتكهنات حول نتائج جنيف 2 ودوره الفعّال في تقديم حل للشعب السوري الذي عانى من الدم والدمار الناجمين عن الإرهاب طيلة السنوات الثلاث الماضية، إلا أن الغالبية المطلقة للشعب السوري تدرك تماماً أن جنيف2 هو عبارة عن محطة دولية لن تقدم أو تؤخر في مساعدتهم للخلاص مما همَّ بهم بفعل الإرهاب، إلا من خلال ما تقدمه من تفويض للجيش العربي السوري، أو من دعم له في مواجهة ومكافحة الإرهاب الدولي الذي تعاني منه سورية، أو على أقل تقدير بإيقاف تدفق الإرهابيين والنفايات البشرية التي اتفق العالم على دفنها بالأرض السورية المباركة، فالحل والفصل برأي هؤولاء هو بيد السوريين فقط. في حين يرى البعض بأن جنيف 2 لن يصل سقفه حتى إلى وقف تدفق الإرهابيين إلى سورية، فهو عبارة عن كرنفال دولي أو محطة دبلوماسية مزركشة تمهد فقط لهيكلة خطوط التسوية الجديدة للنظام العالمي الجديد الذي ينتظر العالم ولادته بعد مخاض طويل أطلق على بعض آهاته اسم الربيع الدجال، والحل هو بيد السوريين وحدهم. وها قد طرق جنيف 2 الباب على ملكاتنا واحتل مكانه أمام جموع المترقبين له من دول وشعوب العالم أجمع، وأصبحت التكهنات لنتائجه من ذكريات الزمن الصعب، الذي فتح المجال لإعادة تنشيط الذاكرة لمعرفة مسارات الوصول إليه من قبل كل الأطراف الفاعلة والمؤثرة في الأرض السورية، وبذلك يسهل علينا التكهن بما سيحققه هذا المؤتمر ومساراته المستقبلية في التعامل مع الحدث العالمي المتمثل بالصراع على الأرض السورية. فعلى الصعيد السوري، استطاعت الجمهورية العربية السورية التعامل مع مراحل الأزمة والعدوان بحنكة مرنة تتم عن طريق طرح حلول تدريجية لكل مرحلة من مراحل الصراع العالمي، والتي كان أحد أبرز معالمها الرئيسة يتمثل في إسقاط اللبوس الواهم والضال للحراك الداخلي الصحي تحت غطاء التنمية والحرية، لتأتي بعدها المراحل الأخرى من العلاج بما يتناسب فقط والحيز الضيق لاستهداف وتدمير مكونات الدولة السورية، إدراكاً منها – كما تبين لاحقاً من سير الأحداث والعمليات – بأن محاور الصراع العالمي سوف تتشعب وتتناثر في عموم المنطقة، وأنها قد تنال من الوجود القومي بالمنطقة برمتها عموماً، ومن الوجود السوري أيضاً الحاضن للفكر القومي المقاوم، والإسلام الصحيح المعتدل على وجه الخصوص. وقد ثبتت الرؤية السورية الناجحة في التعامل المرحلي مع مكونات العدوان عليها، وإن عابها -برأي البعض- التأخر النسبي في مراحل الوقاية والكي منعاً من الوصول إلى بعض المراحل التالية للعدوان، إذ انتقل العدوان من حراك داخلي وهمي، إلى حراك مسلح دموي ألبسه الإعلام المتصهين لبوس الضلالة في الدفاع عن النفس والحرية، مرتكزاً على حرية التدمير والقتل وسفك الدماء وصولاً إلى تسهيل تدخل دولي أممي بالداخل السوري تحت مبدأ مسئولية الحماية الذي أقرته الأمم المتحدة عام 2005، والذي تسقط بموجبه سيادة الدول تحت مزاعم الحماية وتحقيق الاستقرار. وهنا استطاعت الدولة السورية إسقاط هذه الذريعة على المستوى المحلي والدولي، وقامت بتعرية المتآمرين العرب ودفعهم إلى واجهة العدوان من خلال العمليات المحدودة للجيش العربي السورية، ومراسيم العفو المتكررة التي أصدرتها مؤسسة الرئاسة في الجمهورية العربية السورية. الأمر الذي دفع مراحل العدوان إلى الواجهة العالمية والصراعات الدبلوماسية في مجلس الأمن، والتي لعبت فيها الحنكة السياسية السورية في السابق الدور الأبرز عبر تحالفاتها الإستراتيجية من جهة، وعبر مقومات صمودها وقوتها من جهة أخرى، فشكل الغطاء الفيتوي المزدوج، واستثمار الموقع الجيواستراتيجي في بناء إستراتيجية المصالح المتداخلة والمشتركة مع بعض دول العالم، ومنظومة الدفاع المتطورة التي تحظى بها الجمهورية العربية السورية سلاحاً رادعا،ً أسقط هذه المراحل من العدوان سقوطاً مدوياً، مما دفع بالدول الحليفة لسورية إلى أخذ زمام المبادرة في توجيه الهجوم التدريجي نحو القوى المتآمرة على الشعب والدم السوري. لتبدأ بعدها مسارات التفاوض المرحلي من جنيف 1 وصولاً إلى قضية الكيماوي، ثمَّ إلى الاعتراف التام بفشل العدوان المبيت مسبقاً على سورية بتحقيق أبرز أهدافه الرئيسة، والاكتفاء بتحقيق بعض الأهداف الجزئية التي لا تقل خطورة من حيث الأهمية عن سابقتها، والتي رافقها تغيير في بعض الأدوات الغربية وأسلوب تسخيرها لعملائها، كما في المسلسل القطري المتمثل بإقصاء الحمدين( الأمير ورئيس الوزراء) والاستعاضة عنهم بالبدائل الخليجية التكفيرية الأخرى، والقبول المرحلي بالتفاوض للاحتفاظ بالمكاسب المتحققة من جراء عدوانهم على سورية، أو تقليل الخسائر التي قد يتعرضون لها من جراء فشل هذا العدوان. على الصعيد العالمي، فإن القوى المعتدية على سورية حاولت أن تطفي على نزعتها العدوانية السيطرة على الموقع الجيواستراتيجي السوري باعتماد الأسلوب الداخلي للحراك، ومن ثم طابع الحراك المسلح تحت ستار الدفاع عن النفس، ثم ما لبثت أن حولت سيناريوهاتها إلى الساحة الدولية عبر مدخل الجامعة العربية، لينتقل بعدها إلى مجلس الأمن الدولي والتهديد بالقيام بعدوان أحادي الجانب على السيادة السورية، والتي واجهتها الدبلوماسية والجيش العربي السوري في أحد جوانب المواجهة، وواجهتها أيضاً الرغبة العالمية في التحول إلى عالم غير أحادي السيطرة. الأمر الذي جعل من الصمود السوري قدرة إرغام للقوى العالمية التي تحاربها من أجل الرضوخ إلى التفاوض المباشر مع سورية وحلفائها دون وساطة العملاء الذين يقومون بالتدمير على الأرض السورية، ومن ثَمَّ الاعتراف التدريجي -تحت ستار كسب الوقت- بالنصر الذي حققه التيار الحليف لسورية. الأمر الذي يجسد ملامحه التنافس بين الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا على اعتباره امتداداً للتنافس بين الولايات المتحدة والإتحاد السوفيتي سابقاً، ومختلفاً عنه في أهدافه المنبثقة في التشارك بالسيطرة على العالم، والتي بلغت أوجها في الأحداث السورية، من خلال تقاسم مناطق النفوذ والسيطرة بالاعتماد على التشاركات الاقتصادية القائمة على مستوى العالم كنموذج بين الشركة الأمريكية للطاقة والشركة الروسية للنفط المملوكة من قبل الدولة، وبحث الحالة المالية والنظام المالي الذي يحكم العالم، وكذلك الأمر في مجال التسلح والحد من انتشار الأسلحة على مستوى دول العالم، وأيضاً في مجال السيطرة على الممرات المائية وملفات الأمن الإلكتروني ومكافحة الإرهاب وتغيرات المناخ واتخاذ القرار الدولي. لقد فرض الصمود السوري المتمثل بنجاح الدبلوماسية السورية والدعم الشعبي لبسالة الجيش العربي السوري نفسه في تغيير مسارات العدوان العالمي على سورية، الأمر الذي أرغم القوى المعادية على القبول بالمخارج الروسية لها خوفاً من افتضاح أمر انكسارها وتراجعها على الساحة الدولية، وهو ما يمكن أن يسجل سابقة في تاريخ العصر الحديث بين الدول، نتيجة مساهمة دولة -تعتبر في عداد الدول النامية من المشاركة في صياغة الخارطة السياسية للعالم، والتحول الهيكلي من عالم أحادي القطب إلى عالم متعدد السيطرة والنفوذ.