نفحات القلم -الفنان والباحث حسين صقور الفينيق
في أسبوعية رحيل ملك القدود
في إحدى سنوات المحبة التي مرت كما ومضة تزهو بأطياف غنية من انشطة رياضية وثقافية … معارض ومسارح واحتفالات ومهرجانات تبتسم لها السماء ويرقص على أنغامها الماء تحتضنها ارض اللاذقية الخضراء لتمتد على شاطئها الطويل ويعلو ايقاعها في اكبر مسرح وصالة للطرب الاصيل إذ كانت تحتشد بجمهور لا تتسع له المقاعد فمنهم الواقف في الخلف ومنهم القاعد
في إحدى تلك السنوات التي مرت كومضة حلم .. كنت اترقب يوما و ليلة خصصت بكاملها لآخر سلاطين الطرب الممزوج بخمرة الحب السماء وهل يمكن لمن ينتشي بتلك الخمرة الصافية النقية أن يلوثها بما لا يمكن أن يوازيها كانت الأقاويل التي تدور حوله وحول حفلاته أنه لا يقبل مشاركة ايي مغن في سهراته فهو ملك الوصلات الطويلة والجميلة و وسر سحره السماوي يتجلى في غفوة وهدوء رضيع كان يبكي وفي نشوة أم كانت تشكي في ترنح عاشقان وفي تمايل قلب ولهان
قبل بدء حفلته كنت جالسا كغيري أترقب كيفية ظهوره وطلته لم أنتبه أنه مر إلى جواري وأنه شق طريق التواضع بين عشاقه ليكسر القاعدة التي يطل من خلالها نجوم الغناء حين يدخلون المسرح بطرق ترسخ هيبتهم ونجوميتهم ضمن تمثيلية مكشوفة فيسلكون مداخل سرية ومرافقتهم يوسعون لهم الطريق وكان دخولهم للمسرح صار قضية
صباح فخري ملك القدود الحلبيية الذي وافته المنية منذ أيام سيبقى عالقاً في ذاكرة الزمان ينتشي بأغنياته ويدور حول ذاته لأن للأصالة نبعاً يغذيها وهو يرتوي من نبع ذاكرة الروح التي تمتد لرقصات الدراويش التي كانت ولازالت إحدى اكثر الطقوس الموصلة للولادة الجديدة كما طفل صغير يدور حول ذاته ولكن عليك ان تعي دوما مبرراته فهو في تلك اللحظات يدوخ ليسقط متحداً بالصمت و بالسكون الكوني ويصير مركزا للعالم بأسره تحرك ضمن ذاتك ولكن غياك ان تسلك الطريق التي يأخذك الخوف إليها كم من العمق والفلسفة تحملها تلك الكلمات لمؤسس تلك الرقصة والصلاة جلال الدين الرومي
نولد أطفال نكبر عاشقين متحمسين للحياة تصادفنا الكثير من العثرات وحين نكبر نزداد نضجاً ونعود كما كنا اطفال
هذا هو السر الذي يجعل لسلاطين الطرب جمهورهم الخاص غالبيته من الأطفال الرضع والكبار فهم القادمون الجدد من عالم المجهول ولازالوا ملتصقين به وهم الراحلون لذلك العالم وقد اكتشفوا خدعة الحياة ووهم ما أغرتهم به
هكذا كان صوته النابع من سكرات فؤاده ينشر عبقه نبيذاُ سماوياً لتتمايل على أطلاله نساء موشحات بخمار أسود و حاسيات أسيرات عبق انتقل من كيونته وانتشر عبر الأثير ليحول الصالة إلى معبد ولكنه معبد للعاشقين المتيمين وحركاتهم هي بوح إلهي مسموح لأن العشق فيه يرتقي لمستوى الروح …ساعات قضيناها مأسورين بصوت صباح وأعتقد أنها امتدت حتى الصباح فحين عودتي وحيداً آثرت الأثير وتركته صاحبي الوحيد في المسير إذ فضلته على ركوب حافلة ممتلئة لأتابع صلاتي ولازال صدى صوته يفرغني من إشكاليات ومشاكل سخيفة ويغمرني بنشوة أحاسيس ومشاعر رهيفة لأتحد مع أسلوبيته وحركاته وأقلده على قارعة الرصيف في صلاته إلى أن عند مشارف الفجر وصلت …. ولا أدري كيف ومتى وأي طريق سلكت .. كم من المسافة قطعت
كنت ولازلت أعشق تلك الموسيقى الكونية المنبعثة من عوالم الروح وكان ولازال صوتك بلسما للجروح ستبقى خالداً في ذاكرة الزمان وسيظل الأثير عابقا بصدى صوتك القادم من بعيد وها انا ذا أراك تغني في عالمك الجديد … هنيئا لك بصوته يا سماء .. وتابع رقصاتك على أنغام الأثير الممتلئ بصدى صوته حتى الصباح يا ماء