بقلم أمـــل عبـــدالله الهــدابي
(داعش) وبنو غبراء··· قصة تختزل مأساة أوطان لم تعد تطفو على سطح الأحداث، إلا من خلال أنباء سفك الدماء وبقر البطون وقطع الرؤوس، بداية الخيط خبر صغير ربما لم يلتفت إليه كثيرون يشير نصه إلى أن ما يعرف بـ(محكمة الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش)) قد قضت برجم فتاة سورية حتى الموت، لاستخدامها شبكات التواصل الاجتماعي، معتبرة ذلك (سلوكاً غير أخلاقي)، وقضت المحكمة بأن أي فتاة تستخدم أي شبكة تواصل اجتماعي، تجب معاقبتها بعقوبة الزنى نفسها، بحسب ما نشرت تقارير صحفية عدة! ولم يتوقف (فقهاء داعش) عند هذا الحد في تجاوزاتهم ضد النساء المسلمات، بل قاموا بتوزيع منشورات تطلب من النساء عدم مغادرة المنازل إلا مع (محارمهن)!
هذه الممارسات الكريهة ليست بحاجة إلى تبرؤ علماء المسلمين الحقيقيين منها، بل هي بحاجة إلى تفسير من علماء الطب النفسي وأساتذة علم الأحياء لدراسة سلوك هذه (الكائنات الحية) ومدى التغير في سلوكها؛ بفعل الزمان والمكان في ضوء نظرية التطور· هذه ليست نظرة ساخرة من واقع مر ولا هي رؤية استنكارية لتصرف بغيض، لكن الأمر جد محير؛ إذ لا يمكن تصور ولو القدر الضئيل من العقلانية لدى أصحاب مثل هذه الأفكار، وربما يزداد الأمر مرارة حينما ندرك أن هذه الترهات تحلق في فضاء بلاد الشام التي تضرب بعمق جذورها في الحضارات والثقافات الإنسانية!
لم يتنبه هؤلاء الحالمون بدولة، ولو على أشلاء التاريخ والحضارة الإنسانية، إلى أن الإنجاز الوحيد المسجل بالمناصفة بينهم وبين شركاء آخرين، يتمثل في اقتراب السوريين من أن يصبحوا أصحاب الرقم القياسي العالمي في إعداد اللاجئين، وأن تتحول سوريا من ثاني دولة في العالم تستضيف أكبر عدد من اللاجئين في العالم إلى منافسة أفغانستان، من حيث عدد رعاياها اللاجئين والنازحين، وأن يصنف نحو نصف عدد سكان سوريا تقريباً في خانة طالبي المساعدات الإنسانية!
(داعش) هو التنظيم الذي بات يتصدر نشرات الأخبار وعناوين الصحف ووسائل التواصل الاجتماعي في الفترة الأخيرة، وهو اسم مختصر لجماعة أسست منذ نحو تسعة أعوام تدعى (تنظيم الدولة الإسلامية في العراق)، ثم أضافت إلى نفوذها ودائرة نشاطها الأراضي السورية، عقب اندلاع الأحداث الراهنة فيها· وما يضاعف الخطر ويلفت الانتباه، أن مثل هذه التنظيمات والجماعات تتكاثر أيضاً في الفضاء الإلكتروني بسرعة تنافس تكاثرها في الواقع الحقيقي على الأرض، وانتشرت تعليمات أمراء الظلام عبر صفحات (الإنترنت) بشكل لم يسبق له مثيل؛ ما يوجب استفاقة حقيقية للعالم الإسلامي، لا دفاعاً فحسب عن أمنه واستقراره، ولكن أيضاً حرصاً على تعاليم الدين الإسلامي الحنيف من التشوهات والإساءات الصادرة عن ممارسات هذه التنظيمات الطفيلية·
هناك من يحاول التهوين من خطر هذه التنظيمات الظلامية، وهناك -في المقابل- من يحاول التهويل من هذا الخطر، وبين التهوين والتهويل مسافات متفاوتة، لكن الحقيقة في جميع الأحوال، أن هذه التنظيمات قائمة وتزداد تشدداً وشراسة يوماً بعد آخر، كما أن المنافسة بينها باتت تتمحور حول مساحات التشدد والمنح والحظر وغير ذلك من مفردات تحللت من تعاليم الإسلام الحنيف، واستدعت حقباً تاريخية مُرة لا تزال شاخصة في مخيلة كل من ينشد تفسيراً لعهود الانحطاط والتراجع الحضاري في التاريخ الإسلامي على مدى القرون الأربعة عشر الماضية·
الخطورة لا تقتصر فحسب على ما يدور في أرض الواقع، بل إنني أعتقد أن الأخطر لم يأتِ بعد، وأرى أن نشاط هذه التنظيمات على شبكة (الإنترنت) عبر صفحاتها ومواقعها المختلفة ينذر بخطر داهم، فنشاط هذه التنظيمات في العالم الافتراضي يفرز أخطاراً مستقبلية لا يمكن تجاهلها أو الصمت حيالها، ويكفي أن تبحث عبر أحد محركات البحث عن مفردات دموية مثل (صناعة قنبلة)، لتجد ما يتجاوز نحو مليوني عنوان، أما عن كيفية صناعة حزام ناسف فحدث ولا حرج، حول العناوين التي تصادفك في أثناء بحثك، مثل (صناعة الحزام الناسف خطوة خطوة)، وكتاب (المتفجرات السهلة)!
هل اختزل بعض الناس في عالمنا العربي حياتهم في التفجيرات وفنون صناعة الانتحاريين؟! هذا هو ما يبدو طافياً على سطح المشهد، في الوقت الراهن على الأقل، ولكن الاستسلام لهذا الواقع هو بديل مرفوض، فليس القتل والعمليات الانتحارية صيرورة حتمية، ولابد من السعي نحو مخارج جادة للفكاك والهروب من هذا الواقع الأليم، وإنقاذ ملايين الشباب من الوقوع بين براثن دعاة الظلامية وأمراء التفجيرات، ولا أشك في أن أي سعي نحو ذلك يبدأ من تجفيف منابع الفتنة والتطرف والتشدد، ومحاصرة هذا الفكر وتضييق الخناق عليه، بموازاة فضحه وكشفه من دون مواربة أو تردد، وتجريم أي دعم دولي للإرهاب سوءاً من دول أو مؤسسات أو أفراد، ثم ضرورة فتح أفق جديد للمستقبل أمام ملايين الشباب من الأجيال الجديدة، وهذا الأفق رهن بجهود تنمية حقيقية للدول والأوطان وتوفير فرص عمل قادرة على امتصاص الطاقات الجبارة المتاحة في دول تتجاوز فيها نسبة الشباب أكثر من نصف تعداد السكان، بينما تحلق معدلات البطالة فيها في فضاءات قياسية!
ثمة قضية بالغة الخطورة تتمثل في (بزنس) الإرهاب الذي يتغذى على وقع المؤشرات التنموية البائسة في الكثير من الدول العربية، وهذه المؤشرات لا تقصر على الفقر والبطالة بل تدل -وهذا هو الأهم- على الجهل وتدني مستويات التعليم، حيث يجد الإرهاب ومروجوه بيئة مثالية للتكاثر والانتشار والتموضع الجيد· وقد أشار تقرير أصدره مؤخراً معهد بروكينغز الدولي، بعنوان (الشباب العربي: فقدان أساسيات التعليم لحياة مثمرة)، إلى وجود 8.5 ملايين طفل عربي خارج المدرسة، أضيف إليهم مليونا سوري، اضطرتهم الحرب في بلادهم إلى هجر المدارس، وأوضح التقرير أنه بناءً على استخدام تقويم التعليم المتاح في 13 دولة عربية، يبلغ متوسط معدل الأطفال الذين لا يتعلمون في أثناء وجودهم في المدرسة 56 بالمائة في المرحلة الابتدائية، و48 بالمائة في المرحلة الإعدادية· إن هذه الأرقام مفجعة بكل معنى الكلمة· هذه الملايين مرشحة بامتياز؛ كي تصبح هدفاً لتجار الدين وعصابات المتاجرة بأحلام وطموحات الشباب البائس، ممن يمثلون وقوداً للتنظيمات المتطرفة التي تستقطبهم وتجندهم ليل نهار في العراق وسوريا واليمن وغيرها·
الاضطرابات التي تعانيها دول عربية عدة في السنوات الأخيرة؛ أحد أسبابها المباشرة، هو اختطاف الفعل الشعبي لمصلحة تيارات الإسلام السياسي ودخول جماعات الإرهاب على خط التغيير ومحاولتها فرض واقع جديد، وتنصيب نفسها بديلا للأنظمة الحاكمة، لتجد الشعوب نفسها في مواجهة واقع مر، وتكتشف أنها استبدلت بالسيء الأسوأ والتعيس بالأتعس·
المؤشرات التنموية البائسة هي أحد روافد التطرف والتشدد في المنطقة، وهذه حقيقة، مهما اختلف حولها بعض الناس، وهذا لا ينفي دور العوامل الخارجية والروافد والمحركات الأخرى، ولكن تظل (البيئة الحاضنة) للفكر المتطرف، هي أساس الأزمة، ومن ثم فلا ينبغي أن نركن كثيراً إلى التفسيرات القائمة على دور العوامل الخارجية والمؤامرات وغير ذلك من تفسيرات تبدو (مريحة) للكثيرين، لكنها خطيرة من حيث الدفع باتجاه تجاهل البحث في المسببات الحقيقية والمغذيات المجتمعية للفكر المتطرف؛ فخطر الظاهرة الإرهابية والفكر المتطرف، وانتشاره في المنطقة بشكل متزايد، لا يحتاجان إلى تفسيرات مريحة، بل إلى تساؤلات عدة وجهود حقيقية تبذل في مختلف القطاعات ابتداءً من التعليم والإعلام·
أما العوامل الخارجية فتستحق وقفة جادة من المجتمع الدولي؛ إذ تحوّلت التنظيمات الإرهابية المتطرفة إلى (وكلاء أعمال) لكثير من الدول والأنظمة، وهذا الأمر بالغ الخطورة على الأمن والسلم الدوليين، في حال استمراره وتزايده، لاسيما أن بعض هذه التنظيمات تحول إلى (مافيا) عابرة للجغرافيا والحدود، وبات لها نشاط دولي احترافي، بحيث تعمل لمصلحة من يمول خزائن قادتها بالمال والسلاح·