بقلم : المهندس سائر مقصود…
حصل وان طالت سهرتنا أنا وأصدقائي، فتوجهنا بعيد الفجر نحو فرن خاص لبيع الخبز وصلنا وإذ ببضع رجال وبضع نساء يقف كل منهم في طابوره. سيارة خاصة يلهث صاحبها لملئها بالكمية المدفوع ثمنها من الخبز ، ليس احتراما للواقفين ، لا بل، لأن ينهي مهمته ويتجه إلى محله الموجود في مكان ما فيربح بالربطة ضعف سعرها مضافا إليه مصروف البنزين، فلربما كان لديه مواد أخرى عليه ان يحصل عليها… وقفنا مع الواقفين خصوصا وأن السيارة الخاصة تكاد تمتلئ بالخبز ومما حصل على الفرن بينما نحن واقفين مع الواقفين على الطابور (ابراهيم) الشخص الواقف على الكوة ( الطاقة ، نافذة البيع) يبدو ان لديه بعد نظر شديد ، فكان ينتبه للواقفين والواقفات على طرف الشارع أكثر بكثير من انتباهه للواقفين والواقفات في الطابور. و في لحظات صراعنا الذاتي في أن ننتظر أو نرحل باتجاه فرن آخر ، وصل رجل خمسيني لم يرتضي الدور (الطابور) فوقف مباشرة باتجاه النافذة الموحدة لبيع الخبز… وبدأ بالصراخ: ابراهييييييم ، هات عطيني لا تنطرني متل غيري ، ابراااااااااااهيييييييم شو ما سامعني ، ابرااااااااااهيييييييم ولوووووو العمى في عيونك رد , …….، ….. ألهب صراخه مشاعرنا فبدأنا بالصراخ متناوبين : ابرااااااااااهييييم مشينا ، يرضى عليك مشينا، برحمة ابوك رد ، منشان الله مشي الدور، ….. ،…. فجأة ارتكب ابراهيم كارثة حقيقية فقد قام بإعطاء سيدة تقف على دور النساء خبزاً فزبد وتنطوط هذا الرجل الخمسيني وهمس بصوت ليس بضعيف: "الله يلعن سماك يا ابراهيم ، عم تعطي الشرا…ط ، وتاركنا نحنا واقفين" تغامزت أنا وأصدقائي وضحك كل منا في قلبه خيفة أن ننال حظنا من الشتيمة ومرة ثانية قام إبراهيم بإعطاء الخبز لبعض الواقفين والواقفات خارج الطابور ، فصرخ به أيضا هذا الرجل الخمسيني : " ولك يا قليل الذوووووق ، اعطيني ولا تعاملني متل هالاوباش " لم نكن لنعلم إن كان يقصدنا نحن الواقفين في الطابور أم أولئك الواقفين خارج الطابور ولم يلهنا عن تمتمات هذا العجوز إلا صوت الرجل الواقف في أول دور الرجال : "يا ابراااااهيم ، منشان الله عطيه لهالزلمي ، مو منشانو منشانا ، دخيل ربك ، خايف اخود قبلو يا يشر…طني ، يا يضربني".. هنا لم نحتمل أنا وأصدقائي إخفاء ضحكاتنا ، ونحمد الله أن هذا العجوز انشغل باستلام ربطات الخبز الخمس وإلا لكنا أكلنا نصيبنا من الشتيمة بسبب الضحك… وأخيرا حصلنا على الخبز وذلك بعد أكثر من نصف ساعة قضيناها بالجدال والنقاش حول ما حدث وما يتابع حدوثه على الفرن من وقاحة ابراهيم في تعاطيه مع الزبائن الواقفين في الطابور مقارنة بزبائن الدرجة الممتازة.
استلم كل منا ربطتي الخبز وتوجهنا نحو السيارة تأكلنا حسرة عدم توجهنا لفرن الدولة الذي لا يبعد كثيرا ، و منهكين تماما من انتظار غير متوقع وغير منطقي ودون وجه حق لأكثر من ساعة على فرن كان ينتظر على دوره حين وصلنا عدد من الرجال والنساء لا يتجاوز الـ /13/ رجلا وامرأة مقابل عدد يزيدهم بضعف أو أكثر من المارقين الذين حصل كلّ واحد منهم على خبزه دون دور أو انتظار ، ناهيك عن تلك السيارة التي امتلأت بربطات الخبز خلال انتظارنا وانتظار أطول بكثير لمن كان قبلنا.
صديقنا صاحب السيارة التي أقلتنا إلى الفرن وأعادتنا كلّ إلى منزله ، سألني : "كيف فيك تفسرلي اللي صار ع الفرن" واستغرب وأصدقائي أشد الاستغراب، وعلت أصوات هجومهم العنيف عليّ حين كان جوابي : //كل شي صار طبيعي وواقعي جدا // فأردفت بالقول : //شباب شوي شوي، سمعوا التفسير بتلاقو كل شي صار طبيعي// أهملت تهكمهم ، وبدأت بتفسير الحالة، فقلت : تابعوا معي التعاريف التالية : الفرن : الوطن ابراهيم : المتنفذ النافذة الواحدة لبيع الخبز: معيشتنا الناس الواقفين في الطابور ونحن : الناس العاديين المقتنعين انه لا بد من الوقوف بالدور ، لم يستطيعوا أن يفعلوا شيئا مع هذا المتنفذ ورغم خوفهم من فظاظة ودناءة هذا الرجل الخمسيني فإنهم وبكل غباء انساقوا وراءه وبدأوا بالصياح والصراخ حين أطلق الشرارة الأولى للصراخ. الناس المارقين دون طابور : هم المستفيدين من الفرن عبر المتنفذ ، وغير ذلك فسيتجهون نحو فرن (وطن) آخر الرجل الخمسيني: ناشط سياسي وحقوقي سهرتنا قبل التوجه للفرن: الحياة ما قبل الأزمة الرجل صاحب السيارة التي عُبئت بالخبز فهو مثال لتجار الاستيراد والتصدير…. صاح صديقي صاحب السيارة التي أقلتنا متسائلا: "وأنا ، وصلتكم للفرن وراجع بكم للحارة، كل مين جايب معو خبز طازه وأنا ما جبت لان عندي كفاية يومين " قلت مجاوبا: "أنت من جماعة الاوادم النادرين بالطبقة الوسطى النادرة اللي لو فيه متلها ما كان صار فينا اللي صار" و"الشهيد" "الشهيد ما الو تفسير يا صديقي ، الشهيد شهيد " صمتنا جميعا على أنغام فيروز ( والحمد لله لم تكن تغني عن شادي) . تناول احد الأصدقاء رغيفا من الخبز الطازج، قسمه علينا وبدأنا بأكل الخبز الحاف حتى وصلنا الحارة فنزل كلّ عند منزله سعيدا بما اغتنم من الخبز وباحثا عن طريقة لمراضاة زوجته التي أهملها لسهرة امتدت حتى الصباح، ولم تنتهي إلا بربطتين من الخبز ، وفقط ربطتين من الخبز الطازج ، وظهر بحاجة لراحة من جلوس متكاسل وانتظار متململ.