صارت الأرض لا تطاق. ينوشها الاضطراب في كل مكان مهدداً التماسك الهش الذي يربط بين أجزائها. الحدود التي رسمتها الحربان الأولى والثانية باتت مثل خشب يقطّع وحجارة تتفتت، وهي اليوم أمام اختبار التحديث إن لجهة الشكل أو الدور، بعدما أدّى التصادم الاستراتيجي بين القوى الإقليمية والدولية على اختلاف أوزانها إلى زعزعة الأسس التاريخية التي قامت عليها التوازنات الجغرافية السابقة. ومثلما انطفأ وهج الأمبراطوريات بمساحاتها الشاسعة أو زحف الدول الوطنية بأحجامها المتواضعة نسبياً خلال القرن التاسع عشر، تخفي حركة التاريخ نموذجاً جديداً للحكم هو محصلة تفاعلات اجتماعية وثورات سياسية وتعبيرات حضارية وحقائق إنسانية ظاهرة ومؤثرة في حسابات القوة والحق على حدّ سواء، وبات بالإمكان ترصّد إحساس عام بأنّ الأرض مهيأة لظهور صيغة أو صيغ تعكس التزاماً أمتن من قبل الفاعلين لإعادة تشكيلها.
إذًا، بدأت المعالم الجغرافية تتغير مع عاصفة التحولات الكبرى التي شهدتها أوروبا لحظة انهيار جدار برلين 1989 وتفكك الاتحاد السوفياتي 1991. قبلها كانت الجغرافيا ثابتة ومستقرة لمدة 45 عاماً وإن عبر عزل أمم بعينها خلف ستار حديدي أو بفعل كبح المشاعر القومية وتجميد المتناقضات السياسة والطبقية والدينية للحفاظ على «وحدة التراب» بالتمسك بــ(وحدة الأيديولوجيا). وفي المنطقة العربية بدأت منهجية التفكيك فعلياً مع رياح «الربيع العربي» أواخر 2010 بغرض أن تصبح الكيانات السياسية الجديدة أكثر ملائمة للجغرافيا العرقية أو الطائفية. التفكيك وإعاة التركيب في أوروبا كانا يشيران إلى حركة الصراع ضد الشيوعية ممثلة بالاتحاد السوفياتي، وفي المنطقة كانا يشيران إلى حركة الصراع مع الإسلام ممثلة بإيران وإلى النتائج المتداعية لهذه الحركة التي فرضتها ظروف القضية الفلسطينية والصراع مع العدو الإسرائيلي. لا أحد اليوم يستطيع أن يجزم بدقة كيف سيرسم الشكل الجديد للأرض.
الجغرافيا في حالة استنزاف مستمرة، والحدود ليست في مأمن من التبديل، هي بين مدّ وجزر إما بفعل قوة الطموح وأحلام التوسع، وإما تحت وطأة الانكسار والتداعي. يحتفظ كبير السحرة الامبرياليين (الولايات المتحدة) بدور المهندس الدولي الذي يدأب على استبدال الخرائط القديمة بمقاييس لا توقعه في فخ التكرار وعلى أساس معادلات مطوّرة هدفها الإمساك بحركة النظام العالمي وضبط إيقاعه، غير أنّ الأمر لا يمكن تصوره إلا في إطار صراعات مجنونة محفوفة بالمخاطر وتجارب دموية مريرة قد تكلّف الشعوب فوق ما تطيق. وفي هذا المنظور يبدو فقدان الشعور بالطمأنينة والسكينة عاماً، لا بسبب الحروب والنزعات العنفية فحسب، بل نتيجة انحدار البشرية إلى أقصى حدود التحلل الخلقي. كما أنّ تراجع «الوعي بالنوع» وبأهمية التضامن الإنساني والمصالح والعواطف الجماعية يدفع البشرية إلى التشاؤم واليأس، فيما دينامية الفساد والإفساد لا تزيد الفجوة بين الموسرين والمعوزين فقط، ولا تؤجج المشاحنات بين جنوب الأرض وشماله دون توقف، ولا تطيح بمفهوم العدالة الدولية والقانون الدولي وحقوق الإنسان بحسب المعايير المعمول فيها حالياً، وإنما على تغيّر قواعد التوزيع الديموغرافي والاثني والديني، وأبلغ تعابيره وإفرازاته تكمن في تكوين الهويات أو إذابتها، واندماج أوطان أو تشققها. اليوم هناك إدراك متزايد أنّ هذه الأرض تحدق في هاوية المستقبل. ويتمحور جانب كبير من هذا الإدراك بحقائق طبيعية وأخرى بمحتوى السياسات التي تقود دفة البشرية. في البعد الأول اختلال حاد في التوازن البيئي يؤدي إلى سلسلة من الأخطار كالجفاف والزلازل والبراكين والأعاصير والاحتباس الحراري.
وفي البعد الثاني سياسات متمادية تقوم على العدوان والاحتكار والهيمنة والاستغلال والطموحات غير المشروعة، كما في الأجواء التي توفر تربة صالحة لنمو الأفكار العنصرية والاتجاهات الطائفية والأيديولوجيات التي تبرر الصراع بين الثقافات والحضارات. تاريخ جديد يولد على هذه الأرض يفتح الطريق واسعاً أمام صدام بين الهويات الدينية والكتل الإثنية والوحدات السياسية ما يجعل الشعوب جماعات متذررة تبحث باهتياج شديد عن حل دائم ونهائي لأزماتها العميقة من دون معرفة السبيل إلى ذلك. بعد تأسيس الأمم المتحدة (1945) التي نشأت في أعقاب فشل عصبة الأمم (1919) في منع الحروب، تجدد الأمل بعالم جديد تتوفر فيه حماية كاملة للإنسان من الاضطهاد والعسف والأعمال الوحشية والتطهير العرقي والديني، وبات على المنظمة الدولية واجب احتواء النزاعات وتحميل المسؤولية القانونية والأخلاقية لكل الأفراد والمجموعات والدول التي تلجأ إلى قوة الإخضاع والإبادة والتدخل العسكري المباشر لتحقيق أهدافها، لكن سرعان ما تبدد هذا الأمل بسبب تعارض المصالح القائمة على السيطرة والهيمنة للدول الكبرى كالولايات المتحدة الأميركية وبين تطبيق ميثاق الأمم المتحدة. بهذا المعنى تبدو أكثر المقاربات تفاؤلاً بشأن المستقبل مليئة بالوساوس والشكوك شاطرة حياة البشر شطرين: الماضي، من جهة، مقترناً بكل ما فيه من تحديات تعكس النضال من أجل البقاء والعيش في ظل حياة كريمة. ومن جهة ثانية، المجهول الذي لا أحد بمقدوره أن يتبيّن في أفقه متى تنتشر بقعة ضوءٍ تفتح العيون على أملٍ سرمدي بالأمن والسلام يخيمان على تمام البسيطة. ذات مرة أفصح برتراند راسل عن بعض الأفكار القاتمة بصدد مصير الأرض. قائلاً: «بعد عصور أعطت خلاله الأرض المفصليات ثلاثية الفصوص والفراشات غير الضارة، تواصل التطور اطراداً حتى بلغ النقطة التي أنجب فيها معشر النيرونيين والجنكيزخانيين والهتلريين. وهذا في ظني كابوس أسود، فمع مرور الزمن ستعجز الأرض مجدداً عن تحمل الحياة». وليس بعيداً عن هذه الزمر يأتي الأميركيون في هذا الطور الزمني على رأس اللائحة السوداء. وللتذكير فمن ألقى القنابل النووية على هيروشيما وناكازاكي ومن قام بعمليات الإبادة العرقية في العراق وأفغانستان وفيتنام ومن دعم القادة العسكريين في العديد من بلدان آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية لتطهير مجتمعاتهم وارتكاب جرائم وحشية، ومَن حاصر بقسوة دولاً كــ(كوبا وإيران وكوريا الشمالية)، ومن دعم عمليات سرية للإرهاب أدت إلى قتل وتشريد وتجويع الآلاف، هي الولايات المتحدة الأميركية التي يتكشّف أيضاً تورطها في صنع الفوضى العربية العارمة تحت مسمى «الربيع العربي» حيث كشف رئيس وكالة الاستخبارات السابق جيمس وولسي ما مضمونه: «سنصنع لهم إسلاماً يناسبنا، ثم نجعلهم يقومون بالثورات، فيتم انقسامهم على بعض لنعرات تعصبية. ومن بعدها قادمون للزحف وسوف ننتصر». ثم تليها إسرائيل الدولة التي يُعتبر العدوان جزءا من شخصيتها وهويتها حيث مارست ولا تزال أبشع صنوف القتل والتدمير والتهجير القسري ضد الفلسطينيين وقد بلغ الخطر الذي تشكله على الأمن والسلم في العالم عيانية أشد من أن يستطيع المرء تجاهلها. وما يحصل اليوم في غزة من مجازر مهولة يعزز الاعتقاد أنّ زلزالاً مهولاً سيتحرك لا ليضرب المنطقة فحسب، بل العالم بأسره. ثم تأتي الجماعات الإسلامية المتشددة المتعطشة للدم، والمحكومة بخلفية تاريخية ونفسية في ممارساتها وعوائها البربري المتوحش، لتجعل الأرض أكثر إنهاكاً وإرهاقاً ورغبة بالانتقام من إنسان لم يحسن التعامل معها ولا يصلح أن يعيش فوقها بعدما ملأها جوراً وظلماً ونزاعات وحروبا أفرزت جوعاً وبؤساً وخوفاً ومتاعب لا تحتمل.
وعلى عكس هذه النظرة السوداوية وفي حوار ذكي بين (أرخيب والقوزاقي) أبطال رواية للأديب الروسي مكسيم غوركي. يقول أرخيب: «يموت الناس جوعاً.. حتى الخنافس تموت جوعاً. السبب الرئيسي هي الأرض. هذه الأرض ما عادت تنتج. لقد استنفدناها. هز القوزاقي رأسه: الأرض؟ الأرض يجب أن تنتج باستمرار، وهي ما أعطيت للإنسان إلا في سبيل ذلك. قل بالأحرى إنها ليست الأرض بل الأيدي، الأيدي السيئة»!.
هل الأرض تنتقم من البشر أم تترجى رحمتهم أم تستبدل أولادها لتبقى على قيد الأمل والحياة!