دول وإمبراطوريات وحضارات قامت على مَرّ التاريخ في بلاد ما بين النهرين. يُقصد بالنهرين دجلة والفرات اللذين ينبعان في تركيا ويجريان عبْرها وعبْر العراق آلاف الكيلومترات، قبل أن يلتقيا ويتوحّدا في نهرٍ عظيم هو شط العرب على رأس شمال الخليج.
تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام داعش» وريث «القاعدة» ومخلّفات الزرقاوي، انطلق من العراق وتمدد إلى سورية وتمكّن في شهر حزيران الماضي من السيطرة على الموصل عاصمة محافظة نينوى، ومن ثم على أجزاء من محافظات الأنبار وصلاح الدين وكركوك وديالى. وكان «داعش» قد سيطر، بالتزامن مع تمدده في العراق، على أجزاء من شمال سورية وشرقها في أرياف محافظات حلب والرقة والحسكة ودير الزور، فأقام بين دجلة والفرات «دولة الخلافة الإسلامية».
بعد ضربته الخاطفة المدوّية في الموصل قام «داعش» قبل أيام، بضربة أخرى مماثلة في محيط مدينة عين العرب، قلب المنطقة الكردية في شمال شرقي سورية. مصادر إعلامية واستخبارية عربية وغربية، تتفق على أن ضربة «داعش» جرت بطلب من تركيا وبمساعدتها وبعلم «مايسترو» التحالف الدولي ضد الإرهاب الولايات المتحدة. ما وراء هذا التطور الجيوسياسي، وماذا بعده؟
الإجابة عن السؤال تستوجب في بادئ الأمر الإحاطة بالأهداف والأغراض التي تتوخاها أطراف التحالف الدولي من وراء هجمة «داعش» الأخيرة.
لعل الهدف الرئيس للولايات المتحدة استعادةُ نفوذها وتأثيرها في العراق بعدما اضطرت إلى الخروج منه أواخر 2001، من دون أن تستبقي وجوداً عسكرياً وازناً. خروجها المهين بعد احتلالٍ دام 8 سنوات، أدى إلى نتيجة أكثر مهانة إذ ساعد إيران، التي تناصبها واشنطن وحلفاؤها الخليجيون العداء، في ملء «الفراغ» والحلول محلها كلاعب رئيس في الملعب العراقي المتفجر. انكسار حكومة نوري المالكي في الموصل أمام «داعش»، وانكشاف ضعف قوات البيشمركة الكردية أمام تقدّم «داعش» إلى مشارف أربيل، ولّد حاجة عراقية شاملة سياسية وعسكرية إلى تدخل فاعل من الولايات المتحدة لردع «داعش» قبل «خراب» البصرة أيضاً. واشنطن كانت تتلهف لدعوةٍ سريعة للعودة إلى الملعب العراقي بعدما هدد تقدم «داعش» استثمارات الأميركيين، أفراداً وشركات، في شتى مشروعات كردستان العراق المتنامية.
إلى ذلك، للولايات المتحدة ومن ورائها «إسرائيل» أغراض أخرى تبتغي تحقيقها، لعل أهمها إضعاف إيران وجوداً ونفوذاً في كلٍ من العراق وسورية ولبنان وقطاع غزة. قدرّت واشنطن أن الطريق الأقصر لتحقيق ذلك هو في إضعاف سورية وتفكيكها بما هي الحلقة الوسطى في محور الممانعة والمقاومة من جهة والقوة الحامية والداعمة لقوى المقاومة في لبنان وقطاع غزة من جهة أخرى. وضوح أغراض الولايات المتحدة في بلاد الرافدين وبلاد الشام شجعت القائلين بنظرية المؤامرة على الجزم بأن ما قام ويقوم به «داعش» في البلدين الجارين وما تقتطعه جبهة النصرة من الجولان المحتل لتكوين جيب حدودي منفصل عن سلطة دمشق إنما يجرى بعلم واشنطن ودعمها ولمصلحة كلٍ من «إسرائيل» وتركيا.
إضافة إلى الولايات المتحدة، تشير أصابع الاتهام إلى تركيا، ذلك أن أنقرة شاركت مجاملةً في مؤتمري جدة وباريس ورفضت التوقيع على البيانين الصادرين عنهما. أكثر من ذلك، أعلنت أنها لن تشارك عسكرياً في عمليات التحالف الدولي ضد «داعش» في العراق وسورية. لماذا؟ ثمة سببان: الأول، لأن في إضعاف «داعش» تقوية للرئيس السوري بشار الأسد وهي تريد رأسه بلا مواربة. إقصاء الأسد يساعد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في تحقيق حلمه «العثماني» التوسعي بالتعاون مع حلفائه الإخوان المسلمين الذين باتت تركيا تمارس علناً دور ملجئهم وحاميهم. الثاني، لأن أنقرة تتخوف من سيطرة «قوات حماية الشعب الكردي» في سورية المدعومة من حزب العمال الكردستاني في تركيا والمتحالفة ضمناً مع دمشق على كامل محافظة الحسكة، كما تتخوف من احتمال نجاح مشروعها، الإدارة الذاتية، وانعكاسه إيجاباً على أكراد تركيا والعراق وسورية الساعين إلى إقامة دولة مستقلة. وعليه، يمكن التأكيد أن «داعش»، بإيعاز من أنقرة وبدعم منها، تحاول من خلال هجمتها الأخيرة ضرب مشروع الإدارة الذاتية الكردية في شمال شرقي سورية وذلك بفصل المنطقة الكردية عن غربها والاستيلاء على قلبها، عين العرب كوباني ، الواقعة على الحدود السورية – التركية.
«داعش» لا يقدّم ما يقوم به خدمةً مجانية لتركيا بل يخدم نفسه بالدرجة الأولى، لأنه استشعر الخطر الهابط بالغارات الجوية الأميركية على مواقعه في شمال العراق، فعجّل بإخلائها وبإخفاء أسلحته الثقيلة وبنقل بعض وحداته المقاتلة إلى سورية. ثمة بين المحللين الاستراتيجيين من يعتقد بوجود مخطط أميركي تركي للضغط عسكرياً على «داعش» في العراق بغية حمله على نقل القسم الأكبر من مقاتليه وأسلحته إلى غرب نهر دجلة، تحديداً إلى محافظات الحسكة والرقة ودير الزور السورية، ليحقق أطراف المخطط بذلك مكاسب وازنة:
– الولايات المتحدة تحقق هدفها باحتواء «داعش» لا القضاء عليه، وإبقائه في شطر من العراق ما يجعل حكومتيّ بغداد وأربيل في حاجة مستدامة إلى واشنطن سياسياً وعسكرياً. فوق ذلك، يتيح هـذا الوضع الملغوم مكسباً إضافياً، لجم نفوذ إيران في العراق.
– تركيا تحقق بجعل «داعش» حاضراً وفاعلاً في شمال شرقي سورية مكسبين رئيسين: منع التواصل والاتحاد بين أكراد سورية وتركيا في سعيهم إلى إقامة حكم ذاتي ومن ثم دولة مستقلة، واستخدام «داعش» في مشاغلة نظام الرئيس الأسد لإضعافه في سياق محاولة تقويضه وإسقاطه.
– «إسرائيل» تحقق مكسباً وازناً في سياق مخططها الرامي إلى تحويل سورية إلى دويلات على أسس قبلية ومذهبية وإثنية وذلك بدعمها الجيب الجولاني الحدودي الذي أقامته عبر جبهة النصرة لاستغلاله سياسياً وميدانياً بالتعاون مع تركيا التي تعتزم إقامة جيب حدودي مماثل في شمال شرقي سورية.
– «داعش» يحقق مكسباً لافتاً بتكريس إقامة «دولة إسلامية» بين نهري دجلة والفرات تخدم دعوته ومخططه كما تخدم الولايات المتحدة و«إسرائيل» اللتين تريدانها جداراً عازلاً يفصل إيران عن سورية والبحر المتوسط ويقلّص مداها الحيوي الاستراتيجي ويهدد نفوذ روسيا في سورية وقاعدتها البحرية في طرطوس.
غني عن البيان أن هذه التحديات والمخاطر لا تخفى عن إيران وروسيا، ولعلهما منخرطتان في جهود موصولة لمواجهتها.