رغم كل الدراسات المتأنية والطويلة لآثار مدينة أوغاريت وضخامة وتنوع الأبحاث والدراسات العالمية التي صدرت عنها وروعة الاكتشافات المذهلة وترجماتها بعد سبع وثمانون عاماً مرت على اكتشافها وجدتُت بأن هذه المدينة تحتاج إلى من يكتشفها ويعطيها موقعها الحقيقي .. فعندما تقف على أطلال هذه المدينة ترى عظمة المنجز الحضاري فيها. وتتجول في قصورها الملكية وبيوت سكانهاوزيارة معابدها والسير في شوارعها العديدة التي كانت تدب فيها الحياة والحيوية يوماً ما ..نتعرف أكثر على الحياة التي عاشتها هذه المدينة العظيمة وعن النشاط الاقتصادي والزراعي فيها..
لكن نسينا بأن أوغاريت التي لا نعرف اسمها قبل أن يطلق عليها هذا الاسم في الألف الثاني ق.م هي أقدم مستوطنة زراعية هاجر سكانها من حوض الفرات والبادية السورية ليقيموا على الساحل السوري بعد أن أتقنوا فن البناء والزراعة والتدجين فكانوا بذلك صناع الثورة الزراعية منذ الألف الثامن ق.م وهو تاريخ المستوطنة الأولى في موقع رأس الشُمرة.
لقد بنى سكان هذه المستوطنة البيوت الكبيرة والصغيرة من اللبن والطين والحجر وزودوها بالنوافذ والأبواب وأحاطوها بالباحات والشوارع وجعلوا منها نسيجاً عمرانياً متميزاً.
كما زرعوا منذ ذلك الزمن الباكر القمح والشعير والذرة إضافة إلى أشجار العنب والتين والزيتون ودجنوا البقر والغنم والماعز والخنزير.
أما على الصعيد الروحي مارسوا أهل هذه المستوطنة الفنون والمعتقدات بينها عبادة الأسلاف التي استمرت زمناً طويلاً في الشرق القديم في الألف السادس والخامس ق.م عصر حضارتي حَلَفْ والعبيد. حيث استمرت مستوطنة رأس الشُمرة بالتطور على كل صعيد فأبدعت أفضل وأجمل أنواع الفخار الملون والمزخرف ذي المواضيع الفنية والمتنوعة والذي غدا مادة تجارية جابت المنطقة من أقصى مشرق الوطن العربي إلى أقصى مغربه.
هكذا تابعت مستوطنة رأس الشُمرة الحياة والتقدم على امتداد الألفين الرابع والثالث ق.م عصر حضارتي الوركاء وعصر البرونز وظهر هذا واضحاً في كل المجالات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والروحية وغيرها مثل العمارة والفنون والشعائر والممارسات الأخرى. وبذلك وضعت البنى التي نشأت عليها وتطورت منها مملكة أوغاريت العظيمة. وهذه المدينة التي جمعت في طياتها جميع الاتجاهات والتمازجات الثقافية والدينية المختلفة لمناطق شرق البحر المتوسط وآسيا وصولاً إلى مصر.. مكنها هذا الانفتاح من تقديم إمكانيات واقعية لتفاعل ثقافات متنوعة .. جعلتها هذه العظمة تحتل مكانة عالية ورائدة في تاريخ الشرق القديم..
الحديث عن اوغاريت لا ينتهي وعندما نخوض في بحر حضارتها ومكتشفاتها نرى أن هذه المدينة تدهشنا دائماً بجدية مكتشفاتها وهي مثيرة للإعجاب وهذا يدفعنا دائماً إلى زيارتها للتعرف عليها أكثر. ولابد إن اتساع أعمال التنقيب الأثري مستقبلاً ومتابعة دراسة مكنوناتها الأثرية فيها سوف يغني معلوماتنا إلى حدٍ بعيد. ليدل أن عطاء أوغاريت ودورها قديم وهام جداً سبق عصر المملكة التي نشأت على الأرضية الاقتصادية والتقنية والاجتماعية المتطورة لمجتمع أوغاريت في عصور ما قبل التاريخ..
..عاشق أوغاريت ..غسّان القيّم..