غسّان القيّم
………………….
دلت دراسات كثيرة من النصوص الأوغاريتية المكتشفة على أحداث تاريخية وأمور سياسية ومواقف سياسية ودبلوماسية مما يؤكد مختلف العلاقات الدولية وفكر سياسي وتصرف دبلوماسي. ونظراً لموقع أوغاريت
المتميز والهام ونقطة تقاطع الطرق التجارية في الشرق الأدنى في منطقة تتنازع عليها قوتان عظيمتان خلال فترة نهاية عصر البرونز (مصر في الجنوب والحثيين في الشمال) وكون أوغاريت دولة منفتحة جداً على الخارج مع نشاط دبلوماسي متميز.
عرفنا هذه الدبلوماسية الأوغاريتية من خلال نوعين من الوثائق معظمها تقريباً دونت باللغة الآكادية لغة الدبلوماسية الدولية آنذاك طوال فترة الألف الثاني ق.م . هذه الوثائق هي معاهدات واتفاقيات دولية من جهة ومراسلات بين ملوك وشخصيات كبيرة كالحكام والإداريين من جهة أخرى. إن هذين النوعين من المصادر يقدمان وجهات نظر مختلفة. فالمعاهدات تذكر المبادئ التي تستند عليها العلاقات بين الدول. أما المراسلات الدبلوماسية فقد كان هدفها التعرض الى نقاط خاصة ومحددة لا سيما التذكير بالعودة للأصول إذا ما حصل تقصير في تنفيذ الالتزامات المنصوص عليها في المعاهدات.
تعود معظم الوثائق الأوغاريتية الى العصر الذي وضع فيه الحثيون أوغاريت ضمن دائرة نفوذهم فقد وقعت معاهدات بين الملك الحثي »شيو بيلوليوما« وملك أوغاريت »نقماد الثاني« ثم بين مورشيلي الثاني ونقميبا أعيد توقيعها بمرسوم من حاتوشيلي وكانت هذه المعاهدات تنص بشكل أساسي على مصير الفارين واحترام الحدود المرسومة ودعم أوغاريت غير المشروط لخيارات الحثيين السياسية وتسديد الجزية للعائلة المالكة في جتوشا, ولذوي المناصب العليا في بلاطه.
وسوف نورد هنا وثيقة لمعاهدة وبحسب التقاليد الحثية كانت توضع ديباجة تاريخية لتبرير بنود المعاهدة بين »مورشيلي, ونقميبا«بدا فيها لعنات ومن ثم مباركات. تقول: »كل عبارة للإلتزام وللقسم كتبت على هذا الرقيّم. إن لم يلتزم نقميبا بعبارات الإلتزام هذه أو بالقسم فستقضي الآلهة بنفسها على نقميبا عليه شخصياً على نسائه. على أبنائه. على أبناء أبنائه على مدينته على بلده وعلى كل ما يملكه. لكن إذا احترم نقميبا عبارات هذا الإلتزام فلتحفظه هذه الآلهة..« وفي مقابل ذلك كشفت لنا نصوص أخرى عثر عليها في ارشيف المحفوظات الدبلوماسية في القصر الملكي عن مشاكل دبلوماسية خاصة حصلت عندما تزوج ملك أوغاريت »عميشتمرو الثالث من أميرة أمورو وهي حفيدة.. حاتوشيلي « عندما أراد عميشتمرو الانفصال عنها بسبب سلوكها ومن قتلها فقد احتاج للقيام بنشاط دبلوماسي مكثف كي يسمح له الملك العموري في نهاية المطاف. الملك الأعظم »تودخاليا« أن يفعل ما يشاء بزوجته. هذا الموقف لا يقدم سوى مظهراً من مظاهر الحياة الدبلوماسية التي كانت تنظم العلاقات بين الممالك وبين الملوك أيضاً.
وحتى وإن كان على أوغاريت أن تتبع القواعد الدبلوماسية المفروضة عليها من قبل الحثيين فقد كان بوسعها إقامة علاقات مع قوى أخرى إما مع آشور ذات التطلعات التوسعية ولا سيما مع الملك »تيكولتي نينورتا« أو مع بابل أو مع جارتها الجنوبية مصر. أما العلاقات الدبلوماسية مع ملوك الممالك الساحلية على البحر المتوسط ومع الداخل السوري كانت على مستوى آخر. فملوك بيروت وجبيل وصور وصيدا كانوا في الواقع بمنزلة ملك أوغاريت ويمكن أن توحدهم عقود واتفاقيات كما تدل على ذلك صيغة الرسالة »إن بيت بيروت وبيت أوغاريت ليسا منذ الماضي سوى بيت واحد«.
وسوف نورد هنا رسالة موجهة من الملكة الحثية »بودوحبا« الى ملك أوغاريت الذائع الصيت (نقماد الثاني) تكتبها له باللغة الأوغاريتية مع أن الرسائل الدولية كانت تكتب باللغة الآكادية لغة التداول الرسمي بين الدول آنذاك ويبدو بأن أحد الكتبة الأوغاريتيين قد أقام في البلاط الحثي نظراً للعلاقات السياسية الوطيدة بين البلدين وفحوى هذه الرسالة: رسالة من بودوحبا ملكة حثي: لنقماد ملك أوغاريت أقول: هنا الملك الشمس وقرب الملكة شيء على ما يرام. إن الآلهة تسأل عن صحة بلدك والقصر الملكي«.
وفي المقابل كانت مملكة أمورو تحتل موقعاً أسمى منذ أن قاما عزيرو ونقماد بتوقيع اتفاق بينهما بالقسم (ماميتو) (وهو ما يسمى بقواعد وأسس غير مكتوبة تعمل وفق نظام الواجبات) وقد أهمل هذا الاتفاق الخلافات السابقة ووعد مقابل المال بدعم أمورو العسكري لصالح أوغاريت ومع تطور العلاقات الدبلوماسية تقاربت أمورو مع حثي كما هي الحال لاحقاً بالنسبة لسيانو التي انفصلت عن أوغاريت وتقاربت مع كركميش.
إن هذه التغيرات في الروابط الدبلوماسية بين دول سورية لم تكن أن تحصل دون مباركة أو بالأحرى دون مبادرة الملك الأعظم الحثي. وبالرغم من حالة العداء التي كانت تسود طوال نهاية عصر البرونز الحديث بين مصر وحثي فقد استمرت أوغاريت بالمحافظة على علاقات طيبة مع مصر.
لقد ميزت اللغة الأوغاريتية ذات القواعد الصارمة علاقات الدونية أو التكافؤ التي كانت قائمة في ذلك الحين بين مختلف الملوك وكلهم يؤكدون تآخيهم في العبارات التي تتصدر رسائلهم: مثل العبارة التالية:
»قل لملك أوغاريت شقيقي« وغالباً كانت تحياتهم تتميز بالمجاملة دون الإفراط بها مثل »ليحل السلام عليك ولتسهر الآلهة على راحتك«..
ستأخذ أوغاريت وقتاً طويلا حتى نستطيع أن نفهمها..أوغاريت مالئة الدنيا وشاغلة الناس..
عاشق أوغاريت ..غساّن القيّم..