طلال مرتضى – النمسا
هناك مقالات تصلح لكل وقت..
مما نشرت في صحيفة البعث السورية الغراء وخلال أقامتي
في بيروت, سلسلة مقالات معنونة بــ "من بيروت"..
سوف اعيد نشرها هنا تباعاً على تقترب من حواسكم..
من بيروت..
"خذوني ع حلب ما بدي حرية"..
أعرفها جيداً, أذكر تماماً حين وجدتها ذات مصادفة, عند رئيس مركز ثقافي, تتوسله من أجل إقامة فعالية لها, حين غادرت قالت لصديقي: "مش مهم شعر بعرّ, قصة, عندي من كلو", تلاقت عيناي بعيني صديقي, وخرجت مع خروجها ضحكة مشتركة وصلت إلى حد القهقة..
"جبل مع جبل ما بيلتقوا..", في مقهى الكوستا البيروتي, الذي يتوسط شارع الحمرا, حيث يلتقي رهط المثقفين وأشباه أمثالهم من كل أنحاء الوطن الكبير, لتبادل الصفقات الثقافية وغيرها, جلست أفتش بين خطوط الحظ في فنجان قهوتي, متمنياً, علّ فارسة أحلامي تأتي من منفاها البعيد لتلملم ضياعي.
بعض طاولات المقهى البيروتي, قضمت جزءاً يسيراً من الرصيف, وهذا يعطي فسحة جميلة للجالسين, مراقبة المارة والتمعن في وجوههم, وربما تجمعك المصادفة أيضاً بأناس لم ترهم منذ وقت طويل..
وضعت رجلاً فوق رجل, حاولت شد تنورتها القصيرة أكثر من مرة, لكنها لم تفلح, ليس من عيب في التنورة, لكنني أجزم بأنها صممت لكي تنير الجانب المظلم من مفاتن لابستها, استسلمت مقتنعة بأنها لن تغطي أكثر مما تغطي, تركت ردفين متهدلين يعبّان من هواء بيروت حد الاختناق, أنزلت نظارتها المدورة, عاينت هاتفها ذا التفاحة "المقروطة", رمته بتذمر صارخة في وجه النادل: أين قهوتي؟.
لابد أنني أعرف هذه الوجه, ربما لفنانة, أو.. لست أدري؟!!..
صفعت جبيني بباطن كفي هامساً: هي.. هي.., نعم هي وليس غيرها, أم "الشعر بعر".
لكن مع تغيير شبه كلي, "تنورة شبر", بلوزة من الحرير الخالص لا صدر لها, خرج من قبتها العريضة نهدان مكتنزان كغزالين وقعا في كمين مقيت, شعر ملون.. كدت في لحظة ما أتردد بالقول في سري: أنا على خطأ, لم تكن هي التي التقيت بها في المركز الثقافي بدمشق, لولا أنني متأكد من ذلك..
اقترب منها طفل في العاشرة, وسيم الطلة, يحمل باقة ورد جوري أحمر, رمى وردة فوق طاولتها قائلا: "الورد للورد".
مسدت رأسه بيدها قائلة بلكنة لبنانية صرفة: "ياي بتجنن, أنت من وين حبيبي"؟. رد الصغير دون تردد: أنا سوري.
رطنت بلغة أجنبية مكسرة, بما معناه هذا فظيع, سألته مجدداً: "بتروح مدرسة حبيبي, طيب بتعرف تئول أسمك بالانجليزية"؟.
أجاب الولد: "بعرف غني, إذا بتشتري وردة بغنيلك".
كان صوت الفتى جهورياً لفت انتباه المارة ورواد المقهى حين صدح:
"خذوني ع حلب..
والله أشتقت لحلب..
أشتقت لرفقاتي..
يا أمي حلب.. خذوني ع حلب..
ما بدي الحرية.. بدي رفقاتي..
خذوني ع حلب.. رجعوا لي حياتي"..
وكأن القيامة قد قامت لتوها هنا, انفجرت كبركان ثائر, قذفت سمومها في وجه الطفل الذي كاد يتعرض للصفع لولا إنه هرب مع ما يحمل من جوري..
– "شو هيدا القرف, بلد معاش تنسكن, وين ما بتروح بيطلع بوشك شحاد سوري".
رمت قطعة نقدية فوق الطاولة, وغادرت متذمرة وهي تحاول شدّ تنورتها القصيرة, لكن هذه المرة نحو الأعلى.