الوطن
في المشهد العالمي اليوم يبدو التطرف الديني والاثني والعرقي، ظاهرة مرضية خطيرة أنجبت الإرهاب التكفيري، والشعبوية المتطرفة، والنزاعات والحروب الأهلية.
الإرهاب صنعته الإدارة الأميركية وحلفاؤها السعوديون في أفغانستان ليرتد منتشرا في الشرق الأوسط والغرب، والشعبوية المتطرفة تتمدد في الغرب الأميركي الأوروبي، والسؤال: لماذا المد الشعبوي في البلدان الغربية؟ وما دور المصالح الاقتصادية؟ وكيف يمكن قراءة خروج بريطانيا، وانتخاب دونالد ترمب، وانهيار الأحزاب السياسية التقليدية الفرنسية، ودخول حزب نازي للبرلمان الألماني.
في البداية، السمة البارزة للشعبوية هي تقسيمها للمجتمعات إلى شعب فاضل من جهة، ونخبة فاسدة وغرباء خطرين من جهة أخرى، والشعبويون لا يثقون بالمؤسسات، خاصة التي تقيد إرادتهم كالإعلام والمحاكم، والقواعد المالية والنقدية، ويعتقد الشعبويون اليمينيون أن جماعاتهم من المتطرفين هم الشعب ويُعرفون الأجانب بأنهم العدو، ويدعون أنهم قوميون اقتصاديون.
أعد رونالد إنجلهارت من جامعة ميشيغان، وبيبا نوريس من كلية كينيدي في جامعة هارفارد، دراسة يرون فيها أن رد فعل الرجال البيض الأكبر سنا والأقل تعليما على التغيير الثقافي، بما في ذلك الهجرة، يُفسّر صعود الشعبوية، وأيضاً انعدام الأمن الاقتصادي، وهذه الدراسة تعتبر الهجرة تحولاً ثقافياً واقتصادياً أيضاً، والواقع أنها من أسباب الأزمة المالية والصدمات الاقتصادية اللاحقة، وهذه لم تكن لها تكاليف ضخمة فحسب، بل ألحقت الضرر أيضاً بالنخب المالية وصانعي السياسة في الغرب، ومن نتائج ذلك وصول ترامب إلى البيت الأبيض، وخروج بريطانيا من أوروبا.
وزاد التغيير الثقافي والتدهور الاقتصادي للطبقات العاملة من الاستياء، لكن الأزمة المالية فتحت الباب أمام موجة الشعبوية، ولتقييم ذلك، جُمعت مؤشرات التغيير الاقتصادي، والأزمة لاقتصادات مجموعة دول السبع الصناعية.
المؤشرات على المدى الطويل تشمل فقدان وظائف التصنيع، والهجرة، وعدم المساواة، والبطالة، وتراجع حصة الفرد من الدخل الحقيقي، والاقتصادات الأربعة الأكثر تضررا من هذه العوامل على المدى الطويل كانت بالترتيب: إيطاليا وإسبانيا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة.
صدر أخيراً عن "يوروبيان إيكونوميك آدفايسري جروب" أن الشعبوية يمكن أن تؤدي إلى سياسات غير مسؤولة بشكل صارخ، قد تؤدي إلى تدمير المؤسسات المستقلة، وتقويض السلام المدني، وتعزيز كراهية الأجانب، وتقود إلى الدكتاتورية، والاضطراب السياسي الذي نشهده في عدد من الدول الغربية الكبيرة هو جزئيا إرث آخر للأزمة المالية، فعوائق كبيرة تواجهها، ومن نتائج الحماقات السياسية؛ انفصال المملكة المتحدة عن الاتحاد الأوروبي بنتائجها السلبية، كذلك انتخاب ترمب، مع اعتبار أن نهاية القيادة الأميركية حدث من المحتمل أن يكون مدمرا، كما كتب مارتن وولف في صحيفة "الفاينانشال" أواخر تموز 2017.
إضافة للهشاشة الثقافية والاقتصادية، بما في ذلك ارتفاع عدم المساواة وانخفاض مشاركة القوى العاملة من صغار السن، هناك ضغوط الهجرة والشيخوخة والضغوط المالية، والذين يرغبون في مقاومة موجة الشعبوية يجب عليهم مواجهة أكاذيبها ومعالجة المخاوف وخاصة الاقتصادية منها، وهذا ما يحدث في الولايات المتحدة، وهذا قد لا ينهي الموجة الشعبوية، ولكن بالمقابل تبقى الحروب والنزاعات حول العالم السبب الرئيس في انخفاض الناتج الإجمالي العالمي، والانعكاسات على الاقتصاد العالمي، وسبق للرئيس الأميركي الأسبق جون كينيدي أن قال: "البشرية يجب أن تنهي الحروب، قبل أن تنهي الحروب البشرية".
الحروب والنزاعات، يصنعها أصحاب مصالح كبرى وتنفذها أدوات مواجهة معظمها مأجورة وبعضها يتصف بالجهل والتخلف، وهي صفات يحملها الإرهابيون، وهذا ما حدث فيما سمي الربيع العربي من تدمير وقتل وتخريب لمؤسسات الدولة.
وفق آخر تقرير لمعهد الاقتصاد والسلام في أستراليا، في السنوات العشر الماضية وصلت تكاليف آثار العنف على الاقتصاد العالمي إلى 137 تريليون دولار، وهذه النزاعات هي في الواقع عدوان وخسائر على الأجيال الآتية، وتكاليف الحروب والنزاعات تعادل إنفاق خمسة دولارات من كل شخص على مستوى العالم وعلى مدار العام!
من ناحية أخرى المخططات الإمبريالية والفيدرالية كانت جميعاً ضد السيادة الوطنية، والاتحاد الأوروبي هو نتيجة لسلام أوجدته الدول التي سحقت ألمانيا النازية، ومن النتاج السياسي للاتحاد الأوروبي إقناع معظم الأوروبيين أن السيادة لم تعد مهمة، وُيمكن "تجميعها" داخل الاتحاد الأوروبي، ولكن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي رد على ذلك، وربما خلال بضعة أعوام ستدرك النخبة الأوروبية أن الفيدرالية أثبتت أنها زقاق مسدود.
إن بعض أسباب التطرف له جذور وأبعاد اقتصادية تمتد لتطول منابع الإرهاب ومسببات الشعبوية المتطرفة والنزاعات والحروب بأشكالها المختلفة، فالعوامل الاقتصادية كالفقر وتدني مستوى التعليم، تساعد في تفسير لماذا قد يتجه الفرد إلى العنف؟ بالمقابل يرى بعض المحللين أن التطرف والعنف نتاجاً غير مباشر للظروف السياسية والشعور الدائم بالإحباط والحرمان وقلة الدخل والفقر، كلها شروط مسبقة للعنف تدفع الأفراد، أحياناً، نحو محاولة تصحيح ذلك، ولكن تبقى الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية وحدها غير كافية لتفسير عملية التعبئة نحو مزيد من التطرف والعنف.
لا تبدو في أفق المشهد الغربي أي مؤشرات على تغيير في انتشار ظاهرة التطرف بأشكالها المتعددة؛ الإرهاب، الشعبوية، والمؤكد أن السيئ يُنقل بقوة إلى الأسوأ، على حين أن محور قوى محاربة الإرهاب في المشرق، الذي تمثله سورية وحلفاؤها، يُحقق تقدماً واضحاً يعطي مساحة من التفاؤل في المشهد العالمي.