. وأزْهَرَت بذاكِرتي :
…كانت أوراقُ اعتِمادي قد قُبلت كعاشقٍ، أو لاجئٍ، أوساكنٍ بالوادي القريب من بيتِنا، بعدما صَادَقت عليها أوكار النمل، وأشجار الجوز، والدلب، و"مَسِيْلُ" الماء النازل من سفحِ الجبل، وقد تَعوّدَ على إِيقاظنا بهديره في ليالي كانون العاصفة مُذكّرنا بقوته طامحاً للوصولِ إلى البحر، لكن النهر كان يبتلعه ـ كما حُلمه ـ حاضناً إيّاهُ بحنوٍ مكملان المسير معاً إلى حيثُ يمتزجُ العذبُ بالمالحِ.
وكانت الأغصان التي تُحَرِكُها الرّيح تتعانقُ مســتميةً في إطالةِ زمنِ ذاك العِناق بعدما ألِفَت حضوري الدائم كأيّ صخرةٍ، أو شـــجرةٍ، أو قطرةِ ماءٍ يضجُّ بها ذاك الســـحر اللامتناهي لطبيعةٍ صَمْمَت فأبدعت، وحدّثت فأدهشـــت، وعَشِــــقت فأخلصت، كذلك "أبناء عُرس" العاشـــقةُ للحياةِ المتيقظةُ المتوجســةُ دوماً لا تَكّلُ ولا تَملُّ من ممارســة هوايِتها في اللعب على أطرافِ أغصانِ أشــجار الوادي العالية، كانت قد آَنِسَــتْ وجودي، وكم تَمرجحت بقلبي مع كلِّ قفزةٍ مجنونةٍ بين شـجرتي جوزٍ وسـنديان.
يومها كان الدّربُ إلى عينِ الماء التي تتوســطُ القرية مُزدهراً مُزدحماً طيلة سـاعات النهار، يُلونهُ العشّـاقُ عند الغروبِ بألوانِ الحياة، فمنهم من يخطفُ نظرةَ حبٍ عابرة بمرورِ الحبيبة الخاطف بجواره، والمحظوظُ يَحظى بهمســةِ شوقٍ فيها طَعمُ العتبِ، والمُصادفُ لليلةِ القَدْرِ يَحظى بموعدٍ بين أشجارِ ومنحنياتِ تلك المفارقِ والحفافِ فتولدُ حكايةُ عشقٍ تَشــهدُ عليها لحظاتُ الغروبِ المُعطّر بالوعد والأمل والحلم، وتَرويها دموعُ المناديلِ المطرّزةِ، وألســنةُ بعض الُعزّال ….
ولَكَمْ صَحَوتُ من غفوتي وغفلتي على موّالٍ جريحٍ يَحفرُ في وجهِ تلك المســاءات دمعةَ قهرٍ لحرمانٍ لم تستطع حمْلَهُ تلك الجبال، ولا الوديان، ولا الجدران، ولم تتسع له الصدور فكان صاحبهُ يُطلقهُ صرخةً باتجاه ســماءٍ يَعتقدُ أنَّ فيها من يَســمعُه، فيحنُّ عليه مَفرجاً هَمّهُ…
قرصُ الشمس الغائب نُصفَه وراءَ الجبل المقابل لبيتنا لم يُمِهلُني يوماً لإكمال تفاصيل حكايةٍ كانت تَكتُبني على حلمٍ سَيُزهر شـــوقاً ووجعاً بعد حين، ولم تُســـــعفني أُمنياتي بامتلاكِ موهبةَ "ابن عُرس" لتســلّق شجرةَ البلوطِ القريبةِ العالية، أو صعودَ الجبل الّذي خلف قمتِه ينتهي كُلّ يوم نهاري للإمســاك بقرصِ الشمس الهارب، وتأخير قدوم المســــــاء قليلاً بالرغم من اِفتتاني بحكايا تلك المســاءات الزاخرة بنبض الحنين…
إلا أن حُزناً لم يكن ليفَارِقَني وأنا أعيشُ عَجزي اليومي عن مَنعِ انتحارِ الفراشاتِ التي كُنتُ أعشـقها وأُغازلها طوال النهارِ في ضوء "اللكـس" الُملتهب المُتحدي لعتمِ ليالٍ مَضَتْ، ولم يَعُدْ لها شــبيهاً في حياتي.
ــــــــــ أيمن ســـليمان.