خطاب الملحقات والتناصات ورؤيا التجدّد والاستمرار
في ديوان
ندم المشيئة- ما دبرته لنفسي من نهايات
للشاعر كمال عبدالحميد
عادل ضرغام
في ديوانه (ندم المشيئة) يشيّد كمال عبدالحميد نصوصا شعرية مهموم بالأزمة الوجودية لوضع الإنسان المفرد في مواجهة الكون والحياة، تلك الأزمة المحدودة والمحددة بالنهاية، يجد الإنسان نفسه وجها لوجه مع نهايته المحددة بشرطها الوجودي بالانتهاء والتلاشي، وربما تكون أسباب الشعور بحدة هذه الأزمة أسبابا واقعية ذاتية، ولكن الفارق يكمن بين شاعر وآخر في القدرة أو الكيفية التي يتعاظم بها الشاعر عن الحدث الواقعي، ليجعله بعيدا، أو يغيبه، أو يجعله ذائبا في إطار سياق أكبر، ويحيله إلى سؤال معرفي فني يبحث عن إجابات. وفي إطار ذلك يقلّ حضور الواقعي، وينمو المعرفي المشدود إلى معارف شتى، أُسست في حضورها في لحظات سابقة إجابات لها قيمتها.
كل هذه الإجابات تلحّ على فتح كوى جديدة في جدار النهاية المحتوم، تحاول من خلال هذه الكوى امتلاك عناصر متعالية عن الوجود البشري، وتستند إلى تكوينات أثيرية تكفل لها التمرد والاستمرار، ولهذا أعتقد أن الاقتراب من هذا الديوان لن يكون عملا سهلا، ولن يكون به الكثير من شبهة اليقين في التأويل، بالرغم من البساطة الخادعة في أجزاء كثيرة من نصوص الديوان، البساطة التي ربما تكون مشدودة إلى غنائية لافتة، أصبح وجودها محسوسا في قصيدة النثر العربية بشكل عام، والمصرية بشكل خاص.
وتأتي العودة إلى معارف السابقين والدوران في إجاباتهم عن الأسئلة الوجودية لتشكل ملمحا مهما من ملامح ومنطلقات الديوان، فهناك إشارات لأشخاص وشخصيات روائية تصنع أطرا معرفية عديدة، مثل الإشارة إلى كتاب (الأمير) لميكافيلي، أو الإشارة إلى شخصية ريميديوس في رواية (مائة عام من العزلة)، للاستناد إلى فكرة الهشاشة أو الخفة أو الصعود أو الطيران كالملائكة، للتعاظم على الوجود المكبّل بالنقصان والانتهاء في حدود قانون الوجود الخاص بالتفسخ والتلاشي مهما طال الزمن، فهو وجود مشدود إلى قانون النهاية، ومن هنا يصبح الوجود البشري منفتحا على النقصان، يتجاوب معه حنين دائم إلى يد متخيلة تمثل سماء.
والذات الساردة في هروبها من هذا النقصان، لها توجهات وآليات في الانفلات منه بداية من الانفلات من الواقع، والتحول من الوجود الآدمي البشري إلى الوجود الملائكي، ليصبح هذا التوجه طريقا للبراح، أو طريقا للخفة أو النرفانا. وفي إطار ذلك التوجه الخاص يستطيع المتلقي أن يقف عند الإشارات المعرفية الكاشفة عن عمق التأثر ببوذا أو بالكارما أو الميلاد المتكرر أو التناسخ أو سامسارا أو التجوّل اللانهائي، فهناك إشارات دامغة الدلالة على حيوات عديدة للإنسان، وليس على حياة وحيدة منتهية، فكل نهاية في منطق النصوص الشعرية تمثل في الآن ذاته بداية جديدة، مرتبطة ومشدودة إلى مجمل أشكال الحياة في فترات سابقة. ولهذا تستند نصوص الديوان على سردية جديدة لفعل الحياة والخلق مغايرة للموجود في الكتب المقدسة، سردية تعتمد الاستمرار، والميلاد المستمر والتناسخ، والقيامة هنا ليست جماعية، بل فردية وليست نهائية، فهي حلقة في بناء دائري مستمر، يكشف عن أبدية الزمن، وارتحالات الحياة لكل فرد، في أشكال جديدة.
خطاب الملحقات والتناصات
هناك استراتيجية فكرية لافتة في الديوان، وهذه الاستراتيجية تؤدي دورها في تنميط وتشكيل الآليات العديدة للخروج بالديوان من حيز الذاتي الواقعي إلى أفق أكثر رحابة يرتبط بالفكرة التي يتمحوّر في ظلالها الديوان. وتأتي الملحقات النصية أو المفتتحات المأخوذة من شعراء أو مفكرين بمثابة إشارات أو دوائر معرفية، قد تكون مطروحة للاشتغال أو للتحقق دلاليا، فكأنها من خلال وجودها في حيزها المكاني السابق للنص تمثل توجيها مشوبا بالحذر والحيطة للتلقي ولبناء المعنى والأفق المعرفي للنص.
ففي نص (أمشي مأهولا بعويل) نجد أن هناك ملحقا نصيا من شعر الياباني ماتسو باشو (مريض وقت ترحالي/ وأحلامي تتجوّل طافية/ في الحقول الذابلة)، وهنا إشارة إلى سمة شخصية من سمات ماتسو باشو، ولكنه يدخلها في إطار نسق جديد وثيق الصلة بأزمته الحادة وأسئلته، فإذا كان باتسو في تجواله يتدرّب على الزهد، فإن السارد الفعلي في هذا النص في تجوّاله يتدرب على مواحهة الحزن، وعلى هدهدة أسئلته الوجودية التي تلحّ دائما في منعطفات الفقد التي تزلزل الثابت والمستقرّ بشكل أكثر حدة وجسارة. فالنص مواجهة للحزن وللفقد، وللأسئلة التي تطل برأسها على حواف الحزن، وفي مواجهة الذات لكل ذلك، تحاول أن تتحايل على حتمية المواجهة باسترجاعات تحفظ لها اتزانها، ولن تكون هذه الاسترجاعات نمطية محدودة بحدود الزمان والمكان، ولكنها تمثل انفلاتات خارج التحديد المكاني والزماني، فهي أقرب إلى مادة حلمية تصنع اتساقها الفني والسردي، من فكرة الاستقواء وبناء حائط المواجهة ضد الحزن، وما يتبع ذلك من أسئلة، يتم تذويب حدتها بالتجوّال.
ولهذا نجد في هذا النص الافتتاحي احتفاء بكل الجزئيات الخافتة التي تكفل التناغم في لحظات سابقة، أو بالشخصيات التي تشكل سماء حامية مثل الأم التي يمثل فقدها في نصوص الديوان مرتكزا أساسيا، وخيطا مهما يستطيع أن يجمع المناحي الفكرية والمعرفية ويؤسسها، ففقد اليد (يد المحبوبة التي تتعرق)، مواز ومساو لفقد الأم. فحين يقول الشاعر في نهاية نصه (الآن .. ما يدك؟/ غير سقف الغرفة فوق سريري/ كأنها يد الله في ثلاجة مايكل أنجلو/ بعدك/ ماتت أمي/ ذهبتُ إلى حافة البحر لأصرخ/ كي لا أقتل نفسي/ رميت أشياء كثيرة خلف ظهري/ سألت طبيب الأورام:/ كيف تكون الجرعة قاتلة؟) يدرك المتلقي أن هناك توازيا بين جزئيتين تقاومان الفقد في لحظة الانعطاف والأسئلة عن سلطة النوذج المتخيل، وكأن فعل التذكر يمثل عملية من عمليات صناعة قشرة رهيفة تقلل حدة هذه المواجهة، فالتلاعب بالزمن من ماض بعيد إلى ماض قريب إلى آني له ما يبرّره لبناء الاستقواء ضد الفقد المتراكم، وضد المرض الذي يؤسس نهاية لها طابعها الخاص، تباين ما دبرته الذات الساردة لنفسها من نهايات.
ويأتي ذكر زوربا في نص (قوة المؤجل) ليصبح ذكرا أو حضورا مؤسسا للنص بمحتواه الفكري، خاصة في الفيلم المأخوذ عن الرواية للإشارة إلى ديدن ارتباط الإنسان بالعالم. فهناك دائما حال من الصراع بين الإنسان والعالم، أو بين المحدود واللامحدود، مشيرا إلى كل أدب سام، وتعالقه في مواجهة العالم بشكل فردي في حلبة النزال، وتصبح الحياة – في ظل ذلك الفهم وفي ظل الانتماء إلى زوربا العظيم الذي تكمن عظمته في التسليم بهزائمه وخيباته المستمرة- نوعا من الصراع بين مشيئة قادرة وفاعلة وقامعة، ومشيئة مخذولة بالتأطير داخل أنماط الهزيمة التي تتجاور بالتراكم فتؤسس لوجود هامشي بعيدا عن المتن.
في سياق حضور زوربا بخيباته ورقصة الجنون الأخيرة في الفيلم، يشكل النص الشعري وجودا هامشيا مبتورا بالنقصان الدائم، هذا النقصان يتشكل في حدود الهزيمة بعيدا عن المتخيل النموذجي الذي يصنعه الإنسان لذاته، فهذه الصورة المتخيلة للذات إن لم تسمح الحياة بتحققها، تظلّ مؤسسة موجودة، تتجاور مع مثيلاتها في الهزيمة، ويصبح السارد الفعلي أداة جزئية طيعة لخروج المتن عن حدوده، ولاهتبال الهامش- حيث يتجذّر السارد في حدوده- منصة المتن، للخروج عن نسقه الممتدّ للحظات جزئية تفتح بابا للأمنيات وللأمل نحو الاستمرار والتمدد.
فمعاينة النص كيانا كاملا سوف تثبت مشروعية هذا التوجه في التفسير بداية من خيبات المعلمين الأوائل الذين يقف دورهم عند حدود التكوين والتجهيز للنساء من أجل رجال آخرين سوف يأتون يمرحون بهن في براح المتن، فيطل الهامش محصورا وبعيدا عن الفاعلية، فالوجود جزئي مؤقت بزمن، ويصبح أداة في يد المتن، يحرّكه ويجرّبه للمراوحة عن نفسه، خروجا من ثباته وديمومته، وانتهاء بالتكرار الذي يكوّم الخيبات، ويؤسس لتجاورها الممتدّ، ففي قوله (كان يمكن للتاريخ ألا يكرّر نفسه/ يكفّر عن جرائمه العاطفية في أمهات الكتب/ كان يمكن بأكثر من قبلتين/ وأغنية مصورة/ بقليل ربما من التفاهة/ والكثير الكثير من الكلاسيكية في الحب/ أن ينزع ثوبه ولحيته البيضاء/ ويكتب الآن أولد من جديد) هناك اتكاء على نسق مخذول بالهزيمة الدائمة، وأمنيات بالتحول من إطار إلى إطار، يؤسس لنفسه فيها وجودا مغايرا، يتعاظم فيه على اللحظي والجزئي المشدودين لهامش تعرقل خطوته هذه الهزائم المتجاورة، فتحيله وجودا مؤجلا دائما، ينتظر لحظة ما، يعلن فيها عن ميلاده وبدايته، فالصورة المختزنة لوضع أي إنسان في الحياة أو الكون أو لتمثاله الذي يصنعه لذاته لا تموت أو تنتهي بفعل النزال مع الواقع أو مع مشيئة أخرى، حتى لو تظاهرت بالتسليم أو الرضا أو السكون، وإنما تؤسس وجودها وجودا خاصا نابعا من سطوة المتخيل وفاعليته.
أما في نص (كان يجب ألا تموت الأمهات) فنجد أن التناصات المتوالية تؤدي دورا دلاليا مهمًا في التأسيس لحركة المعنى النامية في النص انطلاقا من الجزء إلى الكل، وفي الحركة من الأمل إلى اليأس، ومن الشيء إلى مقابله، وذلك من خلال مجموعة من المعارف التي تنتمي إلى ثقافات عديدة، كل منها يؤدي دوره في مستواه وإطاره الجزئي، لتتشكل في النهاية حتمية التسليم بالفقد (فقد الأم) بكل ضراوته وصعوبته.
ففي الجزء الأول من النص هناك إشارة إلى حادثة السقوط من الجنة، وربما تكون إشارة جمعية، لأنها موجودة في كل الكتب السماوية، فحين يقول في هذا الجزء (من ظنّ أصلا أن المرور إلى هنا/ ليس محفوفا بالخديعة/ ألم تكن هناك أفعى/ وتفاحة/ وامرأة) لا تتوجه الدلالة –مخالفة للمتوقع- نحو إشكاليات المتسبب في السقوط ومساءلته، وإنما يتوجه النص نحو طبيعة المنحى العقابي للحياة بشكل عام، وكونها حياة مأزومة نظرا لحتمية النهاية وضرورة الفراق، فالأرض او السقوط في منطق النص الشعري عقاب للآدمي الأول ولجنسه.
ومن فكرة العقاب الوجودي يؤسس النص الشعري لخروجات خيالية من هذا المأزق، مستندا إلى إجابات ممتدة في مقاربة هذا الأفق العقابي، وذلك من خلال الانتقال من النسق البشري إلى النسق الملائكي، من الجسدي إلى النوراني، من المتلاشي إلى الأبدي، وذلك انتصارا على المحدودية والحتمية المغلقة بالنهاية، يقول النص في نهاية الجزء الأول (أليس ذلك مبهجا حدّ اعتباره أمنية؟/ كأن تقول لك أمك من فرط محبّتها:/ جعل الله طيرانك قبل طيراني/ ثم ألم تطر ريميديوس). فالإشارة في نهاية النص إلى شخصية ريميديوس في رواية (مائة عام من العزلة) لماركيز إشارة إلى الدنيا التي نتعلق بها، ونصنع فيها تماثيل لأحلامنا وصورنا المتخيلة النموذجية، بالرغم من معرفتنا بحدّها المصقول والمطعون بالنهاية. فريميديوس شخصية فاتكة بالعقول والقلوب، فهي أجمل امرأة، لديها رغبة في إيصال الرجال إلى حتفهم، وهم يسعون وراءها، ومع ذلك تظلّ بريئة، وفي لحظة غامضة تطير وترتفع في السماء بشكل مفاجئ دون مقدمات، ويبدو الجميع وكأنهم يعرفون أن تلك اللحظة سوف تأتي فيلوحون لها بالوداع.
إن الوعي الذي يقدمه هذا النص تجاه فقد الأم ليس وعيا ساكنا، لكنه وعي متحرك وفق أزمنة عديدة، ولهذا يلحّ في أجزاء كثيرة من هذا النص جانب سير ذاتي واضح، مثل الإشارة في أجزاء كثيرة من نصوص الديوان إلى تجربة المرض والألم الخاصين بالسارد الفعلي، ولكن هذه الإشارات لا تبدو بعيدة عن الخيط الأساسي، ولا يتمّ التوجه على نحو مباشر إلا في حدود ما يسهم في بناء تراتبية دلالية، وتوزّع الشاعر في بث الحياة في هذا الجسد (جسد الأم) بين الشك واليقين، يتجلى ذلك في صراعه مع (أنوبيس) إله الموت والحياة في الديانة المصرية القديمة، ومن ثم كان الارتداد إلى معاينة الوعي الطفولي للأم أو للأب، حيث يراهما الطفل- انطلاقا من القدرة الحامية- خارج نطاق الموت (هذه أم/ لن تموت حتما/ فقط ترتدي البحر كي نبتهج). ولكن هذه الصورة المشدودة إلى الوعي الطفولي، تقابلها في اللحظة الآنية صورة تقوّض اليقين السابق في القدرة على الخروج عن منطق الحياة والمألوف، وذلك من خلال صورتها في إطارها المذهّب على الجدار، بوصفه تقليدا كاشفا عن حتمية الفقد ومنطق الوجود.
يبدو أن الحركة المتوالية من النقيض إلى النقيض، والتوزّع بين القدرة وعدم القدرة على بثّ الروح في الجسد، تمثل جزءا أساسيا من ارتباط بنية هذا النص ببنية نص (الغراب) لإدجار آلان بو في بحثه عن شيء يهدهد قلقه وشكّه الداخلي في قدرته على إعادة محبوبته إلى الحياة، وفي إطار ذلك يمكن فهم بعد هيمنة الأفق المسدود الاتكاء على نصوص متون الأهرام، والتوابيت المصرية القديمة ( أمام وجهك النائم/ أمام اسمك المتعالي/ خذي رأسك.. اجمعي عظامك.. نادي أطرافك/ انثري الغبار عن جسدك/ قومي فأنت كبيرة كي تنهضي).
لكن في عودة النص الشعري متناصا مع نص الغراب لإدجار آلان بو، ثمة إشارات تكشف عن جهامة النهاية بداية من الغراب ولونه الأسود بدلالته التي تلازمه في معظم الثقافات، مرورا بنسق السواد الذي لا يفارق عينيّ السارد الفعلي في النص، وانتهاء بالجزء المقتبس من نص بو (قل لي، قل لروح يتغلغلها الحزن، هل هناك/ في النعيم الأبعد أستطيع أن أعانق الطيبة/ الطاهرة التي يطلق عليها الملاك ليونور/ أجاب الغراب: ما فات فات). بهذا الجزء تتأكد النهاية ليأتي السطر الأخير الذي تحرك ليحتل عنوان النص للإشارة إلى نهاية لا فكاك منها (كان يجب ألا تموت الأمهات).
التجدّد والاستمرار
ربما كان المنحى الخيالي الخاص بتحوّل البشري إلى ملائكي في نصوص الديوان، يشكل نزوعا أساسيا في وجود بدائل لفكرة النهاية المحتومة من جانب، ومن جانب آخر للوصول إلى حال من الخفة والهشاشة بعيدا عن ألم المرض، وربما أبرقت النصوص السابقة إلى المنحى الآني من خلال التفاتات جنينية بسيطة، مثل الإشارة إلى جناحي الملاك في نصّ (كان يجب ألا تموت الأمهات) (ماذا لو نبت لنا هذا الخلاص/ يصبح الموت صعودا مقدّسا/ شغفا بشريا بالخفة).
فحتمية الموت والانتهاء والانطفاء جزء من طبيعة الحياة والكون، ولكن الوعي بهذه الفكرة يحتّم فكرة التعاظم للاستمرار والامتداد، ويأتي التغيير في النوع من الجسدي للهلامي الأثيري، ومن البشري للملائكي بوصفه واحدا من الحلول المطروحة، لفكرة مقاومة حتمية النهاية والتغلب عليها، فالوجود الملائكي وجود خارج الحيز المكاني المتجسّد، ولا تنطبق عليه قوانين الوجود من البداية والنهاية في إدراكنا المعهود، ولهذا يتحوّل ذلك الأمل أو تلك الأمنية إلى صعود مقدّس، أو إلى شغف بشري بالخفة والانعتاق.
ويتجاوب مع التوجه السابق إشارة في النص ذاته إلى حيوات الإنسان (ليس لدي شيء كثير لأتخيل وجوبه أو ضرورته/ ليمرّ الإنسان بين حيواته بألم أقلّ). فمن خلال هذه السطور الشعرية تتولد جزئية جديدة في أمنيات التعاظم، فالموت أو النهاية الحتمية للوجود الملموس ليس في منطق النص النهاية، وإنما يشكل الموت نهاية مرحلة، وبداية مرحلة جديدة. وتبدأ نصوص الديوان في تشكيل منعطف دلالي جديد يستند فيه الشاعر إلى معظم الثقافات التي تتجاوب مع هذه الأفكار في تجليات مختلفة.
وقد يجدي في هذا السياق الوقوف عند نصّ كاشف عن المنحى الخاص بالاستمرار بشكل لافت، بحيث يمكن أن نعده تتويجا لكامل الشذرات التي وجدناها مبعثرة في النصوص السابقة عليه، لأنه مشدود إلى نقطة الانتهاء والابتداء في آن، والانتقال نحو حياة أخرى مشفوعة بتلبس جديد. ففي نصّ (رقصة التباعد) تتكامل جزئيات عديدة للكشف عن هذا المنحى الاستمراري والتوالد المستمر لحياة على أنقاض حياة أخرى، فبعد الانتهاء في النص السابق إلى حتمية النهاية والموت، يأخذ التعاظم هنا مدى مغايرا.
ربما تتمثل أولى الإشارات في العناصر الأربعة المكونة للكائن الحي في الفلسفة اليونانية القديمة، وفي تصورات إمبادوقليس خاصة، فحين نقرأ بداية النص الشعري (في الخارج نغم بدائي يتوالى مندفعا كقطعان/ ماموث منقرض من التراب، الشجر، الهواء/ مياه البحر البعيد/ موسيقى خبأتها الأرض/ تحت جلدها/ لأجل لحظة كهذه) يتولّد لدى القارئ شعور أن هناك محاولة لتصوير بداية الخلق من خلال الاتكاء على عناصر الوجود، حيث الهيولى في حركتها الحرة، فالروح في منطق النص الشعري تلحّ راقصة متحركة بعد أن تخلصت من ثقلها الجسدي في حياته السابقة.
تتأسس في إطار ذلك الحركة الحرة في فضاء مملوء بكائنات جاهزة لتلبس الروح، جاهزة في المواجهة والحركة والدوران دون ثبات، بالإضافة إلى الإشارة إلى أفعال شبيهة بعملية التحنيط القديمة لدى الفراعنة، وإلى الروائح المعروفة للحفظ، مثل الخلّ والصابون والملح، والتوابل، فحين نقرأ النص الشعري (أرقص عاريا/ في كهف “تو ناين ون تو 2912″”/ غجري يحتفي بكائنات الفراغ/ وهي تجرّب بشغف/ قفزة مفاجئة إلى المسرح/ ونحن في كهوفنا المرقمة/ نراقب الخطر السائب/ مغمورين بروائح الخلّ والصابون/ مجففين بالملح والتوابل/ كأسماك موسمية خلف النوافذ) سنشعر أن هناك إشارات دامغة لفكرة الانسلاخ من إطار قديم، للدخول في خلق وتشكل جديدين من خلال القفزة المفاجئة، والحلول في جسد جديد في كرنفال رقص الانتهاء والبداية في آن.
القارئ لديوان (ندم المشيئة) سوف يدرك أنه مهموم بالواقعي الذاتي، ولكنه يحيله إلى إنساني عام في إطار خاص مشدود للمعرفة، فالدوافع الواقعية ربما تكون عادية قائمة على الفقد أو على محنة فيروس كورونا، ولكن مقاربة هذه الدوافع يبعدها عن نمط الحادثة ويغيبها، أو بشكل قد يكون أكثر دقة يجعل تجليها مرتبطا بأفكار إنسانية عامة، فالموت أو الفقد حدث عادي، لكن الشاعر يحيل هذا العادي إلى فعل من أفعال المساءلة القائمة في مرحلتها الأولى على التبرم الهادئ، ثم التحوّل من هذا التبرم- نتيجة لانسداد الأفق في هذا الإطار- إلى مساءلة معرفية تحاول البحث عن مخرج، فالجانب الذاتي المشدود للواقعي- وإن كان يشكل مدى النص وجماع قسماته الواضحة- لا يتجلى منفردا، بل مشدودا ومغمورا بأطر معرفية، تؤثر على حدود الواقعي والحياتي.
ربما لا يكشف عنوان الديوان (ندم المشيئة- ما دبرته لنفسي من نهايات) عن دلالاته إلا مع النص الأخير، خاصة إذا كانت كلمة المشيئة مشدودة ومرتبطة بأفق أعلى لا يقيم وزنا لتخطيطات الكائن البشري، في ترتيب نهايته، واختيار طريقة موته. فالإنسان بالرغم من وعيه بنهايته الحتمية لا يكف عن التعلق بسلطة المتخيل المرتبطة بوضعه الإنساني في إطار وجوده في كون أو عالم لا يستجيب بسهولة في عراكه أو نزاله لمشيئة بشرية، ويظلّ هذا التعلق سببا أساسيا من أسباب التمسك بالحياة والاستمرار فيها، فيشكل نماذجه بسعيه النهاري، ويتأمل مدى اقترابه أو بعده عنها ليلا، ليقيس حجم المتحقق في راهنيته اليومية، وحجم المتأبي عن التحقق.
والغريب أن المتخيل في ديوان ندم المشيئة لا يرتبط بصور الذات الفاعلة وعراكها مع الحياة أو الواقع شدا وجذبا، وإنما يرتبط بأشكال النهايات أو الميتات التي يتوقعها، فيصبح هذا التعداد نوعا من المشيئة أو الفاعلية، ولكنها تظل أيضا في منطق النص الشعري مشيئة مهزومة وفاعلية شكلية، لا تقوم بالاختيار، وإنما لديها فقط قدرة على تعداد المتوقع، لأن هناك واقعية حاضرة تلقي بظلالها على نصوص الديوان، ففي النص الشعري الأخير بالديوان (اختبار البطء) يشير النص إلى التدابير التي يكونها السارد الفعلي في النص/ النصوص لنهايته، وهي نهايات تشكل سلطة نموذج متخيل أو متوقع، ولكن كلها لإشاراته الواقعية الكاشفة عن منحى خاص تصبح غير ممكنة، بداية من الانتحار بحبوب منتهية الصلاحية، ومرورا بالغرق تحت بصر زوجات عاريات، أو بالخلاص بالمخدّر، أو بالسقوط من الشرفة، أو انتهاء بالذبحة الخاطفة التي لاوقت فيها لندم المشيئة.