ا. علاء الدين الحمداني
كاتب و شاعر عراقي
في المدينة المتداعية كثيرة هي الوجوه البائسة ، .. المارة يسيرون كالأموات ، خطوهم مُثاقل وأفواههم مترهلة ، يسفون النهار بظلام تَراكمَ بأرواحهم حد الأختناق ، الإزقة موحلة , أسيجة متهاوية ،
خانق الهواء المشحون بالقلق له رائحة الزوايا الرطبة ،
بيتنا العتيق تتوسطه نخلة عجوز ساقها معقوفا ، ثمرها اليابس يفترش الأرض , مثل أفكارنا الساذجة ، طرّحها يبابا , ..
في شق جدار تنور الطين يابس غصن النسرين , … لم يعد ديكنا يجلجل بالصياح .. في ليلة
قائضة راح وليمة لجرذان جائعة ..
في المدينة المهترئة أغذُ الخطى بأقدام مُتعبة فيصخب بمسامع إنفعالي صراخ مُجهد وخيالات معتوه ، … يالكثرتها التوابيت والأجداث المحنطة بالكوابيس ،
أعدُ نفسي قرصانا أهوج أعتمر قبعة مثقوبة ، أحمل سيفا مثلوما ، وجيبي ممتلئا خبزا وحلوى منتهية الصلاحية ، أبتسم ساخرا ، تذكرت لا غِمد ولا جيب لي غير قبعة ورثتها عن أبي لا تصلح لرأسي الصغير المحشو بالهراء وبأفكار رَجل خَرِف وذكرى خَرِبة لعصا جَدّي المتآكلة ، مصنوعة من خشب الخيزران لطالما خَذَلَتْه حين تَرَكَتْ الكلاب آثارَ أنيابها على مؤخرتهِ النحيلة ، .. باكورته لم تزل منذ عقود مركونة في زاوية الجدار يحيطها خيط العناكب المسالمة الصغيرة .. قَبر جدي المهجور وما بَقيَّ منه مليء بالدغل ونسج العناكب ..
في المدينة الواهية .. بيتنا ملاصق لسياج المدافن ، مكتضة برفاة الثائرين والمغدورين ، ..
في الليالي المقمرة نسمع صيحات تُخيف العابرين جوار المقبرة ، على الأغلب هو نياح الثكالى لفلذاتهم ..
ٌآآخ يالكثرتهم القتلة واللصوص ..
في المدينة المتداعية ما أكثرهن الميامس بخطوهن الثقيل ، بملامحهن الزرقاء الباهتة ، عيونهن من زجاج ، بأيديهن ناصية الأمر وبأعجازهن يُبَتُ القرار ، ..
هكذا يبدو كل شيء آيلٍ للإندثار ..
لم يزل سلمان بأنفه الكبير وفكه المعوج ، بقامته القصيرة وسحنته السمراء وشعره الأشعث يجوب الأزقة بردائه الممزق ، يحمل خُرجا، كَثُرَتْ فيه الرقع ،.. صِبية الحي يرشقونه بالحجارة .. كما يقال كان قد فقد عقله أثناء أسره الطويل , ومنهم من يؤكد لاحقته سعلية حين كان حارسا للمقبرة …
تُلكم الحجارة هي هدايا حظه العاثر .. يفر دائما حين يفقد أعصابه يعمد إلى ضرب رأسه مِرارا في أقرب باب ،..
الوحيد من يسعفني في هذا الزخم التعيس حين يمرق في حينا وعلى كتفه سلة من الخوص ، حامل النايات الضرير ، كم يحزنني إرتعاشة الناي بفمِه ، وبترانيم شجية تلامس الشغاف ، .. فأجهش وأنا أعد خيباتي وحال وطن مستباح ..
في المدينة البائسة فُقِدَت الألوان في عيون الجياع ، وبات الخبز الأسمر حُلم المحاجر ، ..
أبحث عن هواء نقي أو فسحة من شعاع لا يلوثه عتم الرذيلة ، أبحث عن كوة أَلج فيها جسدي المنهك وأغرق عميقا في الرقاد ..
يصيبني الوهن لدرجة الغثيان ، في رأسي دوران ، ليتني أختفي بعيدا ، بُعدَ الأنسان لغريمه الأنسان ..
في المدينة القديمة لن يطول بقائي ، كل شيء سيمضي ، سأفنى في مكان مجهول ما ، و في جعبتي حلوى منتهية الصلاحية و في صدري مغروزة بنصل حاد شهقات موجعة