..
أحد نصوص كتابي” بيت العجوز.”.
“السادس من اكتوبر “
كانت الساعة تقترب من الثالثة مساء يوم السبت السادس من أكتوبر ،1973 ، الموافق العاشر من رمضان ، ولم يأت أحد من المدرسين أو المدرسات للفصل حتى الآن ليبدأ اليوم الدراسي، علي ما أتذكر أنا في الصف الثالث أو الرابع الابتدائي ،ندرس فترة ثانية بعد الظهر ،فخرج أحد التلاميذ من الفصل ليتحسس الأمر في بقية الفصول.. أخبرنا زميلنا بعد عودته ،متقمصا لدور الصحفي بأن المدرسة في حالة هرج ومرج غير مسبوق وأن جميع المدرسين في مكتب الناظر، مجتمعا بهم . لم يعبأ غالبيتنا بما قال التلميذ، ولم يعط أحد أهمية.. ووجدنا الفرصة سانحة لاستبدال الدراسة بالمزاح الخفيف البريء، الذي سيتحول بعد قليل لشجار وسب وقذف لأهل الطرفين، من العيار الثقيل و خاصة بين مجموعتي, التي أنتمي إليها فكريا ومنخرط في صفوفها ،وعلي استعداد تام للدفاع عنها حتي آخر نفس, كما صرح وأكد لنا قائد المجموعة ومفكرها وواضع مبادئها النظرية، حتى ينتهي الصف السادس الابتدائي ،بعد أن أقسم الجميع يمين الولاء تحت الجميزة الرابضة أمام باب المدرسة منذ فترة طويلة من الزمن لا يعلمها إلا العزيز القهار .. فنحن على الدرب سائرون ولمبادئ الزعيم مطبقون… يتشكل من هذه المجموعة أيضاً فريق كرة القدم، المنافس للمجموعة الأخرى ،التي يتكون منها، ومن مجموعتنا اكبر قوتين في الفصل، أو حلفين عسكريين في حالة عداء دائم ،كما هو الأطلنطي في حالة عدائه لحلف وارسو على الساحة الدولية… كانت فرقتنا لها الغلبة دوماً فهي تهزم فرقة المجموعة الأخرى المنافسة في أغلب لقاءات الفريقين بعد أن ضم زعيمنا إليها أغلب حريفة الفصل …
بدأ بعض أفراد المجموعتين التحرش ببعض “جر شكل” كما يقولون ,كان قائد مجموعتنا الذي هو أفشل تلميذ في الفصل، وكنت اندهش لماذا هو أصلا في المدرسة من الأساس، فهو يواظب على الحضور دائما ، لم أتذكر أنه يتغيب عنها يوماً، فهو لم يحدثنا يوماً عن التعليم أو التفوق أو حتى المذاكرة ،والمدهش أنه كان يمارس دوره كقائد للمجموعة بنجاح تام، ولم يستطع أحد أن يرفض له يوماً طلبا، كنا نرضخ لأوامره عن طيب خاطر و قناعة تامة ولا أعرف سببا واحدا لذلك، لعل القيادة كاريزما لا علاقة لها بالتفوق والنبوغ في الدراسة، ما علينا نترك هذا الأمر العويص نسبياً لعلماء الاجتماع والنفس ودراسي الفلسفة ،ونعود للفصل الذي اشعل الشجار بداخله قائد مجموعتنا، بين حلفه وبين القوى الكبرى المعادية لنا بداخله، كان العداء هذه المرة بسبب أنه ذكرهم شامتا وعيرهم بفوزنا الأخير عليهم بنتيجة كبيرة من الأهداف ، نتج عن هذا الشجار عدة إصابات بالغة كان أكثرها في الرأس لصلابة رأس مجدي أشرس الخصوم، ورأس حربة فريق الكرة المنافس لنا ،والذي كان ينطح الجميع بعد أن أسقط لعدة أفراد من مجموعتنا أسنانا وفتح جباها للبعض تحتاج لغرز من طبيب ماهر، واغلق أعين بعد تورمها حتى أصبحت لا ترى شيئا ،وكان هناك أيضا بعض الجروح العميقة و المتوسطة الناتجة؛ عن العض والضرب بسن البرجل وكدمات فى أماكن متفرقة وتسلخات في وجوه المجموعتين على السواء وتمزيق الملابس ،والحق أقول أن التلاميذ المؤدبين، ومعهم البنات خرجوا من الفصل حتي تنتهي المعركة.
ولكن المفاجأة أن مدرسة العربي دخلت الفصل، والمعركة مشتعلة علي أشدها بين قوات الطرفين، فلم تعبأ بما يحدث على الإطلاق ، والأغرب من ذلك أنها كانت تبتسم وأعتقد أن هذه هي المرة الأولى التي شاهدت ابتسامتها تعلو ملامح وجهها، وسمعت فيها صوت ضحكتها! ؟ ولم تسب أحدا بعصبية كالعادة بغضب شديد وحدة كما كانت تفعل في السابق!! ، أصبح الفصل أشبه بساحة قتال في نفس اللحظة كان الأستاذ مسعد مدرس الحساب القادم من خارج المدرسة يخبر زملائه بصوت عال بأن الخبر حقيقي ،و أن معركة بيننا وبين إسرائيل تدور رحاها الآن على الشاطئ الشرقي لقناة السويس، وهو الحدث الأهم على الساحة الدولية والعالم كله يتابعه ، بعد عبور قواتنا للقناة وأنها تتقدم وتتوغل بداخل سيناء وتسيطر منها على مسافات ومستمرة تقاتل العدو بشراسة وشجاعة منقطعة النظير، واسقطت في صفوف قوات العدو خسائر بشرية كبيرة.. أنصتت أيضاً مدرسة العربي للأستاذ مسعد وانسحبت السعادة على وجهها فبدت أصغر سناً، وأكثر جمالا ،و إشراقا ،عن ذي قبل وكأنها لم تر إصابات التلاميذ، أو التخت المقلوبة والملابس الممزقة ثم قالت بعد أن وضعت ذراعها على كتف أحد التلاميذ في أمومة لا تخلو من دلال الأنثى موجهة حديثها لنا جميعاً :أنتم فى أجازة لأجل غير مسمى!..
فاندفعنا كأسهم طائشة لخارج المدرسة ، ثم تأكدنا أن :الحرب بدأت بالفعل من التفاف مجموعات الأهالي المتحلقة على مسافات متقاربة واستماعهم بشغف شديد للبيانات العسكرية الذى يذيعها الراديو على فترات متقطعة ونحن في طريق عودتنا لبيوتنا.. إذا فقد عبرت قواتنا المسلحة للضفة الشرقية؛ تبدل كل شيء، هناك روح جديدة تسري ، الفرحة ، التسامح ، لا أستطيع مهما أتيت من قدرة على الوصف أن أنقل مشاعر الفرحة التي ارتسمت وعلت الوجوه. إنها لحظات من مشاعر استثنائية لا تبقي بداخلك خلجة من الأعصاب واحدة تقف على الحياد، هي مشاعر أقرب للفوضى الجميلة المجنونة تمتلئ بها نفسياً ووجدانيا وتحار في تفسيرها عقلياً، وتفشل قدراتك التعبيرية والبلاغية في التعبير عنها فتلتزم الصمت حتى لا تفقد المعاني والمشاعر بكارتها … تستطيع أن تقول أن مصر فى عرس وهذا سر جمال مصر ,فهي على قلب رجل واحد فالخبر الذي يسعد به من في أقصى الجنوب يهتز له نشوة وسعادة من يسكن الشمال همهما وسعادتهما مشتركة لا طائفية في الفكر تفرق بينهما في المشاعر، ولا تمايز في الأحاسيس ، فالدولة الضاربة الحضارة في القدم يسري تيار تحتي خفي في جميع نفوس أبنائها أن الهم واحد ، والسعادة مشتركة ، كأن الجميع كتلة في واحد… ليست الدولة مساحات من الأرض و مجموع أفراد, ولكنها حاصل مشاعر مشتركة واتفاق وجداني شبه صامت بين سكانها …مصر تعيش من جديد *روح* حطين وعين جالوت … لم أر مثل هذه قبل ولا بعدها “
أقيمت مباراة بين فرقتنا والفرقة المنافسة لنا في أرض المريح والتي هي بجوار المدرسة ، وهزمناهم أيضاً ولكنهم لم يغضبوا لهزيمتهم هذه المرة… فقد أصابتهم روح أكتوبر حتى بدا كل شيء في مصر مهمش ، فلا صوت يعلو على صوت المعركة ، والأغرب أن فرقتنا لم تفرح بالفوز لنفس السبب ،و تناسى الجميع ما حدث بيننا في الفصل لتمسنا أيضا روح التسامح بعد أن مست الشعب المصري أثناء المعركة ،وعدت للبيت متأخرا ولكن أمي لم تعاقبتي ولم تؤنبني ، مثل ما كانت تفعل كل مرة، لأنها كانت مشغولة هي ونساء الجيران بالدعاء علي أمريكا وإسرائيل بالويل والثبور وعظائم الأمور وخاصة نيكسون وموشى ديان، ، أما الجزء الأكبر فكان من نصيب جولدا مائير ..