في مؤلف يعد ثاني اصدار لها في مجال الكتابة التاريخية ، حمل عنوان ” إلى شهيد لم يدفن ” ، كتبت الروائية الجزائرية ليلى عامر عن شهيد الثورة التحريرية الجزائرية 1954م – 1962 م “روان بن براهيم ” ، واحد من أبناء المنطقة التي تنحدر منها ، قصفته طائرات الاستعمار الفرنسي بين صخور جبل وعر بضواحي محافظة تيارت بالهضاب العليا الغربية للجزائر ، وهذه قصة عدم دفنه ، وقد اعتمدت الروائية نمط سردي في وصف ظروف استشهاده والتعريف بوقائع أخرى متصلة بتضحيات قدمها الشعب الجزائري ثمنا للحرية ، وحاولت تسليط الضوء على جزء هام من حياة ساكنة محافظة تيارت ، وهي التي صرحت لنا في لقاء جمعنا بها بمدينة ” فرندة ” إحدى القلاع الثقافية والحضارية بالجزائر ، التابعة إداريا لمحافظة تيارت الجزائرية ، على أن تكون كتاباتها القادمة مستوحاة من تراث وتاريخ هذه المنطقة الغنية عن التعريف ، وستسعى ليلى عامر لنقل أجمل صور موطنها داخل البلد وخارجه ، خاصة وأنها تنطلق من بيئة تعتبر منبت علم الاجتماع ، أقام بها العلامة عبد الرحمان ابن خلدون أربع سنوات وعلى أرضها بدأ كتابة مقدمته ، و هي أيضا مسقط رأس المستشرق الفرنسي جاك بارك الذي نهل من الثقافة المحلية ، درس اللغة العربية وحفظ القرآن وأضحى واحد من أهل المنطقة ، وقد أقيمت له مكتبة وسط مدينة ” فرندة “تحمل اسمه ، بعد أن أوصى عائلته اهداء مكتبته الخاصة لهذه البلدة عند وفاته وتمت الوصية على أكمل وجه ، إضافة إلى سيدي الناصري العالم المتصوف عاصر ابن خلدون وله مسجد وسط المدينة القديمة ، وترى الروائية ليلى عامر أن هناك ما يستحق الكتابة بهذه الحضيرة الثقافية ، الأمر يتطلب العناية والاهتمام ولا حاجة لنا للخيال أو الأسطورة لنكتب .
وفي سؤالنا لها بخصوص دوافع خوضها الكتابة في المجال التاريخي وهي التي أصدرت من قبل خمس روايات ؟ ، تقول ليلى عامر : لم تكن الكتابة التاريخية مشروعي ، مجرد صدفة أضحت حقيقة ذات يوم لما ذهبت لتسجيل بعض الشهادات حول الثورة التحريرية مع مجاهد وإدراجها ضمن روايتي ، كما سبق وأن فعلت في رواية : ” امرأة افتراضية ” أين ذكرت المناطق السياحية التي تزخر بها منطقتي ، وهذه الرواية كما تعلمون حققت نجاحا كبيرا وتم ترجمتها الى اللغة الفرنسية ، لكن ما حدث هذه المرة مؤلم ولا يشبه مهمتي السابقة ، ما ان استهل هذا المجاهد حديثه بسرد بعض الوقائع الدامية حتى شعرت بألم يشق داخلي ومسؤولية ملقاة على عاتقي ، وأنا أعاتب نفسي وأقول كيف لا اكتب للذين وهبوا حياتهم لننعم نحن اليوم بالحرية ؟ ، لقد ضحوا بما يملكون ، بمالهم بحياتهم بشبابهم في سبيل هذا الوطن ، ونحن ماذا قدمنا لهم ؟ ، تضيف الكاتبة تقول : خجلت وشعرت بتقصير تجاه هؤلاء الأبطال وتجاه الوطن ، وعدت الى بيتي معاهدة نفسي من اللحظة أن تحمل كتاباتي القادمة تاريخ بلدي ، أنقل صورة منطقتي المجاهدة إلى أبناء وطني ، ولم لا ؟ أنقل صورتها إلى خارج الوطن وهي تستحق الفخر بالنظر لماضيها التاريخي والحضاري ، كتبت ” السابعة بحدود النار” ، ثم ” إلى شهيد لم يدفن ” .
تحدثت الروائية ليلى عامر من خلال مذكرات أنجزتها حول مجاهد يسمى بيوض الحاج عليه رحمه الله ، لأن بين هذا الأخير والشهيد الذي لم يدفن صداقة الطفولة وهما من نفس القرية ، تربيا معا والتحقا سويا بالثورة التحريرية ، واستمرت هذه الصداقة على ما هي عليه بعد استشهاده ، بحيث بقي المجاهد يزور المكان الذي استشهد فيه رفيقه ويحدثه عن كل صغيرة وكبيرة ، يخبره عن العائلة وأهل القرية وكل جديد ويخاطبه كأنه على قيد الحياة ، كان يفعل ذلك باستمرار في مشهد مؤثر وملفت للانتباه ، لم تخف الروائية تأثرها بهذا المشهد المتكرر دائما من المجاهد ، فتخيلت الأحداث ونقلتها على لسانه بطريقة فنية راقية جدا تجعل القارئ يراقب نهاية كل قصة أو حادثة بشغف كبير ، خاصة وأن ليلى عامر روائية بارعة لها باع طويل في الكتابة السردية ، لذلك أبدعت في صنع محتوى هذا المؤلف ، وقد بدأت في سرد الأحداث من تلك الكلمات المؤثرة التي خاطب بها ” القايد ” أم المجاهد بيوض الحاج وهو برفقتها طفل لا يتجاوز الثامنة من عمره ، قال لها : مين ولدك يقرا …حنا أشكون يسرح ” بزوايلنا ” ، يعني لما ابنك يقرأ ويصبح متعلم من يرعى ” دوابنا ” ؟ وأضاف يقول عندنا نقص في ” الخماسة ” أي عندنا نقص في اليد العاملة التي تقوم بأشغال الفلاحة كالحرث والدرس مقابل الكيل الخامس من المنتوج السنوي ويسمى ” بالخماس ” ، كلام مؤلم سمعه الطفل بيوض الحاج واستقر بداخلة إلى أن كبر وصار رجلا يأمل تحقيق أمنية طفولته وهي الالتحاق بالثوار فكان له ذلك .
المؤلف ضم أيضا صور فوتوغرافية تفيد الباحث والمهتم بتاريخ الثورة التحريرية ، وصور بواسل جيش التحرير من رجال ونساء مجاهدات ، إضافة إلى أحداث ميدانية منها معارك ضارية ومواجهات دامية ، وقفنا عند هذه الملاحم البطولية مطولا وقد جلبت انتباهنا لما تحمله من تضحيات ، فارتأينا ذكر بعضها وهي كثيرة لعل أبرزها معركة ” تاغية ” في 04 أكتوبر 1958 م ، من أكبر المعارك ، تقول الكاتبة : نزل جنود جيش التحرير بتعداد يقارب 260 مجاهد وتناولوا العشاء وأخذوا قسطا من الراحة جانبا ، وبسبب وشاية وجدوا أنفسهم في مواجهة قوات فرنسية من 15 الف عسكري تقريبا مجهزين بأحدث الأسلحة ، وحوالي 35 دبابة تغطي مساحة 10 ألاف هكتار كما ورد في الكتاب ، وطائرة تملأ سماء المنطقة ، واستطاع الثوار بإرادتهم وعزيمتهم المعتادة إلحاق العدو خسائر بشرية كبيرة ، إسقاط حوالي 300 عسكري فرنسي في تعداد الموتى ، منهم 200 عسكري من المجندين حديثا قدموا للاحتفال بالنصر ، ظنا منهم أن القنابل التي أفرغتها الطائرات الفرنسية على رؤوس الثوار قضت عليهم بالكامل ، بينما هم أحياء مختبئين داخل مياه واد قريب منهم تحصنوا بصخوره زمن غير قصير .
في رصيد الروائية ليلى عامر سبع إصدارات ، منها خمس روايات وقصص ، تقول : أولى باكورة أعمالي ” البقايا ” ، مجموعة قصص وخواطر منها ما هو من واقع عاشته الكاتبة وغوص في عمق المجتمع ، أول رواية لها عرفت النور في 2019 م وهي ” امرأة افتراضية ” ، عن دار إيكوزيوم للنشر والتوزيع عام 2018 م ، وحققت نجاحا باهرا ، شاركت بها في مسابقة جائزة محمد ديب ، وتم ترجمتها الى اللغة الفرنسية ، إضافة إلى رواية ” نخب أولى ” الصادرة عن دار خيال للنشر والتوزيع ، وهي تجربة متميزة ، قدمها الشاعر الناقد السعودي مشعل العبادي ، كذلك ” وجع الرماد ” ، مجموعة قصصية عن دار ” يوتوبيا ” وكان العمل رائعا جدا من حيث الشكل والمضمون ، طباعة جيدة وتصميم رائع ، أيضا قصص موجهة للأطفال بعنوان ” سارة وصرة الذهب ” ، وهي مشروع خيري عائداته موجهة للأطفال المرضى ، والإصدارين الآخرين في مجال الكتابة عن الثورة التحريرية الجزائرية في محافظة تيارت ، الأول ” السابعة بحدود النار ” والثاني ” إلى شهيد لم يدفن ” .
نفحات القلم . الجزائر . أبو طارق الجزائري