عالمنا اليوم.. إلى أين ؟
مساهمة في بناء رؤية استراتيجية.
أصبح سائدا اليوم في التحاليل الاستراتيجية الحديث عن ” سقوط وشيك للغرب”،
وأجد نفسي غير بعيد عن مثل هذا التفكير، مع احتراز وحيد حول كلمة “الوشيك”… فالصراع سيكون ضاريا ولا أحد بإمكانه التكهن بمداه الزمني الحقيقي ؛
وقد كنتُ عبرتُ عن ذلك في “يومياتي الباريسية” التي كتبتها سنة 2018 بعد زيارتي اليتيمة آنذاك للعاصمة الفرنسية، ونشرتها حال الانتهاء من كتابتها بمجلة “الحياة الثقافية” التونسية ، وقد جاء بإحدى فقرات تلك اليوميات تحت عنوان : بحثا عن يقين حضاري جديد، ما يلي :
“هل يكون المد الحضاري بصدد الانتقال حقا إلى آفاق أخرى؟
وهل إن ميكانيزمات…الفساد… في ثنايا هذه الحضارة الغالبة الآن… قد تكون بصدد الإعداد لهذه النقلة؟
وكم ستستغرق النقلة من الوقت هذه المرة؟
وفيما لو تحقق هذا الاحتمال…
هل سيعود المد الحضاري إلى الشرق القديم؟ فنرى دول الصين ،
والهند ،
واليابان،
وروسيا الأرثوذكسية،
وقد أصبحت هي الدول ” القائدة”؟ ؟؟
وما هي…. ” الرسالة”…. التي ستعتمدها هذه الدول تحقيقا لتمدّدها ؟ لأنه لا بد لكل مدّ حضاري من رسالة فيها تواصل وقطيعة مع الماضي في نفس الوقت….!
ثم ماهو نصيب أمتي العربية في كل هذا الخضمّ؟
ارتعبتُ حقا لما وصلتُ إلى هذه النقطة…. فأنا على دراية بحجم الدماء عند كل نهايات، وعند كل بدايات…
فالجديد لا يُولد إلا مضرّجا بدماء القديم “.
كان هذا قبل اندلاع الحرب الأطلسية الروسية بأوكرانيا في فيفري 2022.
بل إنني كنتُ متيقنا على الدوام من أن المركز الحضاري البشري كدأبه من مرة إلى أخرى، لا بد له من الانتقال من الغرب المهترئ بنيويا( فساد اقتصادي) وقيميّا ( شذوذ وفساد أخلاقي) إلى الشرق الناهض،
وإن كان لا بد لكل مركز حضاري ناهض من ” رسالة” تجميعيّة، وهو ما شاهدناه دائما عبر التاربخ البشري، فمن ذلك اعتماد الغرب في العصور الحديثة على فكرة “حقوق الإنسان” ، فقد وجدت روسيا ” الأورتودوكسية” بعد فشل تجربتها السوفياتية باسم الاشتراكية، في” الفكرة الأوراسية” مع حمولتها القيمية ضد الانحلال الأخلاقي بعض المعالم لهذه الرسالة الجديدة …فمنها استلهمت تكتيكاتها الجاذبة لإفريقيا بما فيها دول جنوب الصحراء ولكن كذلك الجزائر في شمال هذه الصحراء،
وإن مسارعة الحلف الأطلسي الامبريالي المتصهين إلى التمركز بالمغرب الأقصى بواسطة التطبيع العسكري بينه وبين الكيان الصهيوني هو جواب مبكّر ضد نجاح التكتيك الروسي المدعوم من طرف الصين وكوريا الشمالية وإيران بالخصوص…بعد أن شاهد الغرب نجاح هذا التكتيك نسبيا بالشام وخاصة بسوريا بعد الهجوم التخريبي وبالوكالة ل ” دواعشه المتأسلمين ” عليها،
فإفريقيا السمراء المستتزفة خيراتها بشدة تفوق الخيال من ذهب وألماس ومعادن نادرة وخيرات مختلفة منذ نهضة أوروبا بداية من سنة 1492 وهو تاريخ طرد العرب من اسبانيا والبرتغال ( الأندلس سابقا ) وانتقال المد الحضاري في ذلك الوقت ،
و إفريقيا المستعبدة شعوبها بالمعنى الحرفي لكلمة الاستعباد حيث تعيش هذه الشعوب في الفقر المريع والتخلف الفظيع نتيجة لذلك،
ستكون مدار الصراع في هذه النقلة التاريخية. الجديدة … وهذا ما نحن عليه شهود…
لأن إفريقيا إن وجدت طريقها للتحرر فسيكون ذلك إيذانا بالسقوط المدوّي للمركز الامبريالي المتصهين كونه سيحرم من ثمار نهبها وهو الذي اعتقد أنه حسم الأمر لفائدته نهائيا مع انهيار الاتحاد السوفيتي ومع إقرار العولمة و القطب الواحد… حيث أعلن بشيء من التسرع عن ” نهاية التاريخ”!
فهذه الأهمية التي لإفريقيا في الصراع الدولي الحالي هو ما فهمه بوتين بذكاء وهو الذي قال :
“لست بحاجة إلى حرب مع الغرب لإسقاطه ؛ يكفي أن أحرر إفريقيا من الهيمنة الغربية كي ينهار الغرب تلقائيا” …
ولكن يبدو أن الغرب المتصهين في قمة جبروته العولمي لم يقرأ حسابا ليقطة الأمم القديمة ولرفضها للطغيان وللاستعباد، وهو ما تجسم في رد فعل :
– الأمة الصينية الكونفشيوسية والتاوية، بمعية الجزء الشمالي من الأمة الكورية التي حكم عليها الاستعمار بالانقسام،
– والأمة الروسية الأورتودوكسية ،
– والأمة الهندية بتراثها المتنوع والبوذي تخصيصا،
– والأمة الفارسية بتراثها الزرادشتي كما لقحته بقراءتها الشيعية للموروث الإسلامي،
– وأمة ” الزولو” كما بناها قائدها التاريخي ” تشاكا” قبل وفاته سنة 1828 وأعاد صياغتها “نلسن مانديلا ” في القرن العشرين بجنوب القارة الإفريقية…
ففي هذا النطاق أدخِل من ناحيتي في التحليل صمود شعبنا بسوريا غير المسنود مع كامل الأسف كما ينبغي من طرف بقية مكونات القومية العربية… بل إن بعضها قد تآمر على هذا الصمود جهارا….
والرأي هنا هو أن هذا الصمود السوري رغم محاولات تخريبه من الخارج ومن الداخل إذا أمكن له:
– التواصل وعدم الانقطاع،
– والاستفادة بحكمة من المتغيرات الدولية،
– وخاصة تجاوز مطباته الداخلية التي يعمل الأعداء على دفعه إلى الوقوع فيها،
ربما سيكون له شأن في بعث نواة جديدة لنهضة الأمة العربية العريقة هي الأخرى، كي تقوم هذه النواة بالمهمة التاريخية التي أفشلها الأعداء سابقا مع :
– محمد علي باشا بكل من مصر والشام في القرن التاسع عشر،
– وجمال عبد الناصر بمصر ثانية في أواسط القرن العشرين، بإطلالة وجيزة على الشام مجددا سنة 1958،
وصدام حسين بالعراق في مستهل القرن الواحد والعشرين الذي لم يجد للأسف سبيلا للتعاون مع الشام،
ولم يتمكن الأعداء من إفشال تلك المحاولات التي ذكرنا إلا باستغلال الثغرات الداخلية التي لم تقع معالجتها تحصينا كما ينبغي لتجارب النهوض…
فذلك ما يجب التفطن إليه في كل محاولة جديدة من طرف مكونات القومية العربية حتى يكون ممكنا لها النجاح والمساهمة إلى جانب غيرها من الأمم الناهضة في بناء العالم الجديد.
فذلك هو المرجو.