كنت قد انجزت مجموعة حلقات معرفية من (غير المفكر فيه أو غير المعمول عليه) تحت عنوان حديث الماء، وبفضل تذكير أحد الاحبة المهتمين جداً بما انتج من معرفة، وكرامة لتذكيره، آثرت، ان اضع هذا العنوان الذي حضرت معالمه العامة في ذهني قبل أيام ضمن هذه السلسلة.
أيام تفصلنا عن يومين مهمين من أيام الله جل وعلا العظيمة، وهما (١٢ و١٣) من شهر رجب المرجب، ولعل يوم (١٣) معلوم مشهور عند الشيعة كافة وعدد كبير من المسلمين فضلا عن المهتمين، وهو يوم مولد أمير المؤمنين وإمام المتقين علي بن أبي طالب عليه السلام، لكن التأريخ الثاني غير مشهور، وهو يوم قدوم أمير المؤمنين الى الكوفة عام ٣٦ هجري، واتخاذها عاصمة له، واصبحت محل شهادته، وقبلها موضع حركته المعرفية والايمانية.
وعلى الرغم من اهمية هذا الحدث وعظمته ومكانته في تاريخ البشرية عموما، والعراق والشيعة على وجه الخصوص إلا ان هذه الرحلة ومجرياتها، لم تغطى بما تستحق من الكتابة والاهتمام، فنقل عاصمة كاملة (مهما قيل عن شكلها) من محل الى آخر، وهذا النقل، لم يكن تغيرا جغرافيا وحسب، بل تغيرا عميقا في كل شيء، (وكأنه، بل هو قطيعة زمانية ومكانية ومعرفية وسياسية وقانونية واجتماعية وثقافية عما سبق)، هذا إذا قيل عن خيار الكوفة التي تساوي (خيار العراق) بأنه خيار لاحق للظروف والمتغيرات التي حدثت بعد شهادة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأما بناء على ما أقول به (وليس هنا محل التدليل عليه)، فإن العراق والكوفة خيارا ربانياً نبوياً علوياً مهدوياً، إذ كانت محلا لمعظم النشاطات النبوية والاتجاهات الايمانية، فالامر اعظم واكثر استحقاقا للبحث، وهذا النقل او في الحقيقة العودة الى الاصل، لم تأخذ حقها من البحث والدراسة.
لم تكن إضافة علي عليه السلام الى الكوفة خاصة والعراق عموما إضافة شخص الى جغرافيا، بل هي استبدال هوية مشوهة ومرتبكة وطارئة بهوية عميقة متجذرة حقيقية تتناسب تناسبا طبيعيا مع التركيب النفسي والاجتماعي والثقافي والحضاري وقبلهن الرباني لهذا البلد، فالعراق وجد لعلي وعلي خلق للعراق، ولا يمكن تصور الكوفة دون علي وعلي بلا كوفة.
يقدم التاريخ الكلاسيكي تفسيرا تقليديا لحركة علي عليه تجاه الكوفة، إذ شكلت احداث تمرد البصرة وحرب الجمل السبب الاهم لقدومه الى العراق، ثم قرر لمتطلبات تكتيكية، ان يتوجه إليها، ثم لاهداف استراتيجية قرر البقاء فيها، إلا ان الحقيقة خلاف ذلك، فالذهاب الى الكوفة أمر رباني، وضرورة إلهية تتعلق بالتخطيط الكوني الأعلى، فتوجهه إليها بمثابة العودة إليها، حيث استقرار فيها والى الابد لحين شهادته في محرابه بمسجد الكوفة المعظم، وهكذا اصبحت بوصلة الحراك العلوي الذي استمد رؤيته وتوجهه وخصوصيته الايمانية من ايام علي في الكوفة، إذ يتلمس من لديه حس عميق وشعور يتجاوز حدود الظاهر، رائحة علي وصوت اقدامه وكل ما يتعلق ب (علي) في كل انحاء الكوفة وخاصة في مسجدها العظيم.
إن (علو العراق) مقام، لم يأتي من خصوصية جغرافية تعتمد على عناصر التأثير الطبيعية والاقتصادية المتداولة في وصف اهمية المواقع، بل ان هناك امر، لا يدركه إلا الأوحديون، فالعراق مرجع شرعية كل الاتجاهات الربانية (بما في ذلك من سبق الاسلام)، ورغم الحديث عن (فلسطين والفاتيكان ومكة والمدينة والازهر واماكن اخرى) إلا ان اهل الدراية الحقيقيين، يدركون جيدا، ان (من ليس له صلة بالعراق بأصل لشرعيته وحقيقته، فلا علاقة له بالربانية اصلاً)، ويمكنكم الاستماع الى كلمات اليهود المناهضين للصهيونية، وكذلك علماء الكنيسة المشرقية وعارفي الباطنية الربانية وكل الاتجاهات غير المنتحلة بشريا، لتعرفوا بوضوح موقفهم من قضية (علاقتهم بالعراق ومكانته في شرعيتهم)، لذا، حتى وإن كان منطق التكتيك الامني والاستراتيج السياسي، يدفع بإتجاه الزهد بالعراق، وان دوائر القرار المستندة الى منطق السياسة والامن، تدافع عن فكرة عدم اهمية العراق والزهد به، فإن (دوائر العمق) لها رأي مختلف وتوجه آخر، لذا سيكون العراق محل اهتمام وحرص جميع القوى العالمية مهما قيل عن التحولات في الاستراتيجيات العالمية، والذي يتبعه سلسلة من الفعاليات والنشاطات.
عَلَوِية العراق، شكلت خارطة مهام ومسؤوليات ربانية، تمظهرت في مراحل زمانية مختلفة عبر اشكال متنوعة (تتمركز في الحب والولاء لعلي وآل علي والذي هو الطريق الاوحد لحب الله ورسوله)، إذ مثلت كربلاء الحسين عليه السلام أهم هذه التمظهرات، والتي ادخلت الحسين عليه السلام في شراكة نسبة شبه متوازية في التوصيف حتى صار يقال (عراق علي والحسين)، كما، ان هذه التمظهرات، ستجد إنعكاسها الكامل في دولة الحق الكبرى على يدي الولي الخاتم الامام المهدي عجل الله فرجه، والذي سيكشف (في زمانه) بوضوح وصراحة مركزية العراق وكونه قلب العالم وباب السماء، وما بين التمظهر الحسيني والتجلي المهدوي، تفرض علوية العراق مهاماً كبيرة في مسيرة الايمان والتغيير الايجابي ومواجهة الطواغيت والاستكبار وتعميق الصلة بالله من خلال الايمان الحق، وهي مهمة لا تقع على الشيعة وحسب، بل هي مهمة كل العراقيين.
ان هذا الايجاز المكثف، يتطلع الى تحريك جهد معرفي مناسب يتسائل بموضوعية عن صلة العراق ب (علي)، ويبحث في الجذور والاصول والمكامن والخفايا، ويضع اليد على اهمية الهوية العلوية العراقية، ودورها في مسيرة الخلاص الربانية، وهو ما يتسع لبحوث ودراسات ومؤتمرات، بل وحتى إنشاء مؤسسات معرفية تتلائم وحجمه المعرفي.
#نعمه_العبادي