الكتابة (المناسباتية)
خطأ التدليل وضياع المعنى
عبد الباقي قربوعه كاتب جزائري.
– نقول عن الكتابة ذات العلاقة الديناميكية بالمناسبات المبتذلة، أو التي وراءها قوانين أو عادات أو طقوس ترسمها وتدعو إلى إحيائها، هذا النوع من الكتابة الذي لا علاقة له بالتجارب الإنسانية، والتي وراءه جهة تغذيه وتثريه، لتكرّس فكرة أو أييولوجية أو عادة اجتماعية سواء كانت حسنة أم سيئة، هذه الكتابة لا نسمّيها إبداعا لأنها لا تنتج نصوصا ذات قيمة إنسانية حقيقية، بل يمكن أن نسميها بالكتابة المتكلفة أو الكتابة المأجورة، ولا نقول عنها كتابة مناسباتية.
لا أتفق مع مصطلح (مناسباتية) عندما نريد التدليل على جديد الكتابة، لا أرى هذا إلا خطأ يضاف إلى جملة الأخطاء الشائعة، قياسا بما جرت عليه سُنة النقاد والملاحظين والمؤرخين على تعريف علاقة الأدب بسائر مناسبات ومواقف المجتمع، فكما لكل انفعال مناسبة كالضحك والبكاء، أيضا لكل نص مناسبة، كما الأغاني واللوحات الفنية، والنص الذي ينطلق من فراغ لا روح فيه، حتى الكتابة التي تفتح أدراج الماضي وتعاود حوارها مع الذكريات، فلا بد لها ما يسندها من مناسبات، وبدونها لا يمكن أن تكون مواقف إنسانية جديرة بالحنين إليها، وبإدراجها ضمن ما نحتفظ به تاريخي أدبي.. فالحب أعظم مناسبة، فلو لم تكن مناسبة باكتمال موقفها بوجود حالة حب حقيقية بين طرفين، لما دفعت الشاعر لقول الشعر مثلا، فكيف يتغزل بدون حضور امرأ ة جميلة تسببت في إثارته، كذلك الموت في قصائد الرثاء، فكيف نسمي القصيدة بمرثية فلان، إذا لم يمت.. الثورة مناسبة، الظلم مناسبة.. ما يفاجىء الوطن من محن ومعضلات كلها مناسبات.
ما جدوى كاتب يغيب عن موساة بيته أو وطنه في مناسباته.. سائر الأفراح والأحزان كلها مناسبات إنسانية، وهي حقول ومراتع للكتابة.. التأثر بموقف ما بحد ذاته مناسبة.. إذن جميع انفعالات البشر المفاجئة هي في الحقيقة مناسبات إنسانية تدعو للكتابة، وتتفاوت قوّة النص بحسب قوة حضور الكاتب وعلاقته النفسية بالمناسبة، فكيف تخلّد الكتابة وتسجل مآثر هذه المواقف وتوثّقها للآتين، إذا اتفقنا بأن الكتابة تبحث خارج المناسبة، الرّاهن بكل تداخلالته اليوم يحتوي على كثير من المناسبة للكتابة، الإنسانية وما تتعرض له من مأساة في العالم، كل ذلك مناسبات.. فإذا انعزلت الكتابة عمّا نسميه عادة بالمناسبة، فكيف نجيب الثقافة في معناها الإنساني الدقيق، وشمولتها في النظر إلى شؤون الإنسان ومستجدات حياته، في القديم يسمون المناسبة مضربا للأمثال والقصائد، والقصيدة الشعرية بحكم علاقتها بالإنسان منذ القدم لا تكون مؤثرة، إلاّ إذا كانت لسان حال المناسبة، بل إضافة إلى ذلك تمارس وظيفة إعلامية حول مكان المناسبة وزمنها وأشخاصها، ولا أحدثكم عن قصائد المعلقات، وأثرها وتعريفها ودوافعها، وعلائقها بمناسبات المجتمع في الحياة، وكذلك أهميتها التاريخية من حيث أنها تعكس جملة من المواقف الإجتماعية والأدبية، خذ مثلا قصائد الأطلال وما تنطوي عليه من مواقف تتغنى بمآثر وذكريات الرُّحل والغابرين من الأحبة، الذين كانت تجمعهم بالمكان مناسبات مختلفة، ذلك عندما كانت القصيدة في أوج راقيّها.
لاحظ أن القصيدة كانت رائدة بامتياز في رصد المناسبة الإنسانية شكلا ومعنى وتداعيات، فلو عزلت بدواعي ما يُطرح الآن بمصطلح (الكتابة المناسباتية)، لجاء التاريخ يحكي لنا بأن الشعراء والروائيون كانوا يهيمون على وجوههم، ولم تكن لديهم أيّة علاقة بحياة المجتمع، ولا بجميع أفراحهم وأحزانهم ومآسيهم، وكذلك ثوراتهم وبطولاتهم وهزائم وانتصاراتهم، إذن رفض الكتابة التي تتزامن مع المناسبة بدعة نقدية، تريد أن تعزلها عن روح الموقف الإنساني، كأن تجعل منها مجرد بحث معرفي أو سؤال استعطباطي، أو أنها تدفع المبدع للكتابة بدون مناسبة مؤثرة، أعتقد أن الحالة التي اُريدَتْ باستعمال مصطلح (الكتابة المناسباباتية)، هي الكتابة المتكلفة أو المأجورة، النص الذي وراءه أشخاص أو مؤسسة تريد من تلك المناسبة أن تشيع وتنتشر، ويقصدون الكتابة التي لا تنتج إلا الرداءة أو التكرار، على أساس تكرر المناسبة وتشابها مما يكرسه النظام أو المجتمع من ذكريات وعادات وطنية أو دينية.
(الكتابة المتكلفة) أو (الكتابة المأجورة) هذا هو المعنى الأجدر بالتدليل على الحالة، وهذا أنسب تعبير لما تغلغل في أنفس الذين أرادوا أن يشيروا بأن اجتماع الكتابة بالمناسبة مفرزة للرداءة، مبرّرين ذلك بخوفهم وهلعهم على مستقبل الكتابة.